[مسألة: إن تزوجت امرأة المفقود وجاء قبل أن يطأها الزوج الثاني]
قال رحمه الله: [وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول وبعدها له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني] (إن تزوجت) هذا تسلسل في الأفكار، وميزة هذه الشريعة العظيمة الكريمة التي هي: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] {يََقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:٥٧] أنها شريعة تامة كاملة.
ولذلك تجد أن الفقه الإسلامي ضرب أجمل الصور وأروعها في معالجة المسائل والمشاكل والنوازل بدقة وعناية وشمولية، بينما القوانين الوضعية قاصرة، يجلس أصحابها مدة يعاينون الناس وينظرون أعرافهم حتى يسنون القانون بعد ما تحدث القضايا، ويدرسون الأقضية التي تسمى: دراسة القضاء، فيقولون: هكذا في القضاء الفلاني والعلاني، فيجمعون هذه الأقضية ويجمعون تصورات ثم بعد ذلك يحدثون، فلو شاء الله أن الأعراف تغيرت، وأحوال الناس تبدلت واختلفت المعايير في المجتمع واختلفت أوضاع الناس ذهبت قوانينهم أدراج الرياح، وما عادت تنفع؛ لأن البيئة التي فيها التزام ومحافظة ليست كالبيئة التي لا يوجد فيها التزام، والبيئة الغنية ليست كالفقيرة، والبيئة الجامعة بين الغنى والفقر ليست كالمتمحضة فقراً أو غنى، لكن الشريعة الإسلامية هؤلاء علماؤها وأئمتها -رحمة الله عليهم- قد خرجوا المسائل من أصول صحيحة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بأجمل وأكمل ما يكون، فهنا لم يقولوا: إن امرأة المفقود يحكم بأنها تنتظر، فإذا انتهت مدة الانتظار حكم بأنها أجنبية وأنها تحل للأزواج ويقفون عند هذا فحسب؛ ما الذي يترتب على هذا الشيء؟ تحكم الشريعة في الشيء ولا تقف عاجزة، وقد كانت دولة الإسلام من المحيط إلى المحيط ولم تقف الشريعة ولا الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عند نازلة أو مسألة أبداً، بل إنها وفت وكفت وجاءت على أتم الوجوه وأكملها، لكن القوانين الوضعية تعجز في كثير من الأشياء والأمور التي تطرأ أو تجد، وهذا ما يسمونه بمسائل (الطوارئ) في لغة العصر، وتسمى: مسائل النوازل عند العلماء، فإذا نزلت النوازل اختلفت المعايير واختلفت الأقيسة، لكن الشريعة الإسلامية لا يحدث تغير فيها ولا عجز، والعلماء -رحمهم الله- منذ فجر الفقه الإسلامي عندهم ما يسمى بمسائل التخريج، وهذه المسائل اعتني بها تقريباً من القرون الأولى في الفقه الإسلامي، يخرجون ما حدث ووجد على ما مضى، حتى أنك تجد أن الفقيه ليس عنده دليل ينص على حكم المسألة لكن يستطيع أن يقول الحكم في المسألة ويصيب الحق؛ ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وكان عمر رضي الله عنه يقول فيه: (أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين) - قال: (أقول فيها برأيي -في مسألة سئل فيها- فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان ثم قضى بأن عليها العدة ولها الميراث.
فقال له الأشجعي: أقسم بالله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا).
الله أكبر! يقول: أقول فيها برأيي، ويقول: إنه: ليس هناك نص، ولكنها بصائر تنورت، وقلوب صقلت بروحانية الكتاب والسنة، وأمة تلقت هذا الفقه بضوابط وأصول صحيحة، ومن هنا كان التأدب مع العلماء الراسخين، فهذا يقول: (أقول فيها برأيي) وما كذب رضي الله عنه وأرضاه، وإذا هي برأيه المحض، وهناك من يتهكم بالفقهاء ويقول: أهل الرأي!! والصحابي هنا يقول: (أقول فيها برأيي) فالرأي إذا كان مستنبطاً من الشرع فلا يلام عليه أحد، وأئمة الإسلام ودواوينه ما جاءوا بالرأي من جيوبهم بل من الكتاب والسنة، وإنما الرأي المذموم هو الذي يكون غير مستند إلى العلم، كأن يأتي شخص ويفتي دون أن يكون قد درس الفقه على أصوله.
هذه المسألة من مسائل النوازل وتترتب على الأصل المقرر، وهي مسائل المستتبعات التي يذكرها العلماء، وتختلف مناهج المتون الفقهية، وتقسم تقريباً إلى ثلاث درجات: الأولى: متون تعتني بالأصول فقط ولا يدخلون في التفريعات، وكأنها مختصر المختصر، وأصحاب الفقه والأصول ينهجون هذه الطريقة.
الثانية: ومتون هي وسطٌ بين المختصر والمطول، وتعتني بالأصول والتنبيه على نكت وطرائف وتتمات وفوائد لطيفة، ولا يدخلون في التفريعات.
الثالثة: متون موسعة، وهي متون ومختصرات في الفقه، لكنها تعتني بالأصول وما بني على الأصول، وما يطرأ من مسائل الآثار، وربما في بعض الأحيان يأتي بغرائب المسائل، وهذا يختلف من مذهب إلى مذهب ومن فقه إلى فقه.
وعلى كل حال فقد ذكر المصنف -رحمه الله- المسألة الأخيرة وهي: إذا تزوجت امرأة المفقود وجاء المفقود، وفي هذا قضاءٌ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عن الجميع.
أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فإنه قضى أنها لزوجها الأول، ويخير بين أن تعود إليه وبين أن يعطى الصداق وتبقى مع زوجها الثاني، وهذا الحكم من عمر رضي الله عنه مبني على الأصل؛ لأن القاعدة في الشريعة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).
يعني: إذا ظننت ظناً وعندك له دلائل وبنيت عليه أحكاماً ثم تبين أنه خطأ، فهذا الظن لاغٍ، وما بني عليه من حيث الأصل لاغ أيضاً، مثلاً: لو أن شخصاً استدان من شخص عشرة آلاف ريال ثم ظن أنه سدده، ورفع إلى القاضي فحلف بالله فقيل له: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة.
فقيل: يا فلان! أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف بالله على غلبة الظن، فهو يظن أنه دفع له، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن، مثلما يحصل بين التجار حين يتعاملون مع بعضهم، فجاء في ظنه أنه دفع له عشرة آلاف من معاملة قديمة، فظن أن هذه المعاملة هي التي عليها الخصومة، ثم بعد سنة أو سنتين أو ثلاث تبين له أنه مخطئ.
فهل يسقط حق الرجل بسبب ذلك الظن؟ نقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه ونرجع إلى الأصل، فنحن هنا حكمنا بأنه ميت وأنها خرجت من عدتها وحلت للأزواج، ثم تبين أنه حي، ولم يطلق ولم يحدث بينه وبينها مخالعة وفسخ، والأصل: أن العصمة بيد الزوج، وفي هذه الحالة يلغى الظن ويرجع إلى الأصل من أنها زوجته، فقضى -رضي الله عنه- بهذا، وهذا مبني على القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان).
وقضى رضي الله عنه بهذا القضاء في امرأة من بني شيبان اختصمت إليه رضي الله عنه وأرضاه، فقضى بخروجها واعتدت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم جاء زوجها الأول فخيره بين رجوعها وصداقها.
وكذلك أيضاً: ارتفعت قضية إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه ومضى إليه أهل المرأة وكانوا قد زوجوها فقال عثمان - -وكان رضي الله عنه في الحصار-: (كيف أقضي بينكم وأنا في هذه الحال؟) وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه، فقد رجع إلى مسألة القضاء، فقالوا: قد رضيناك، فقضى فيها رضي الله عنه بالقضاء الذي ذكرناه، فلما توفي رفعت القضية إلى علي فأثبت الذي قضى به عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح قضاء عمر وعثمان وعلي، وحينئذٍ يخير بين أن يرجع إلى زوجته وبين أن يأخذ الصداق.
ثم بقي النظر: هل يرجع في الصداق على المرأة؟ أو يرجع على الزوج ثم الزوج يرجع على المرأة؟ وجهان للعلماء؛ ولذلك جاء في قصة الشيبانية أنها دفعت الألفين -وكان صداقها ألفين- قالت: (ثم أخذ من زوجي ألفين فأغناه الله)، ألفين من عندها، وألفين من زوجها، وقالوا: إن هذا بطيبة نفسٍ منه، لكن من حيث الأصل فإن الصداق يرجع فيه على الزوجة؛ لأنها هي التي نيط بها الحكم، وقال بعض العلماء: يرجع فيه إلى الزوج ثم الزوج يرجع على من غره وهي الزوجة، والغالب على هذا.
ولكن إذا رغب الزوج الأول في زوجته فهنا يرد السؤال عن صداق الثاني؛ لأن الثاني دفع الصداق، فقال: يرجع إلى من غر.
وهذا كله إذا حصل الدخول، أما إذا لم يحصل الدخول فقد ذكر المصنف -رحمه الله- أنها للأول، وقد قضى به غير واحد من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وفرقوا بين بين أن يقع رجوع قبل الدخول أو يقع بعد الدخول.