[حكم الكتابة على القبور]
قال المصنف رحمه الله: [والكتابة]: أي: والكتابة على القبر، فقد ورد في الترمذي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة على القبر)، والكتابة على القبر نوعٌ من الإعلان، والكتابة تأتي على صور: الصورة الأولى: الكتابة على القبر من باب المدح والثناء كما كان يفعله أهل الجاهلية، فيكتبون على قبور بعضهم بما فيه ثناء على صاحب القبر، وقد يكون ذماً له وتوبيخاً له، وقد تكون فيها شماتة، كأن يكتب أبياتاً على عظيمٍ لكي يشمت به بعد موته، وهذه الأحوال كلها محرمة؛ لأنه لا مصلحة في هذه الكتابة، بل الشماتة بالميت معتبرة، وكذلك مدحه لا يفيده، ولربما ضر كما في حديث الصحابي لما نُدِب، فلا خير في كتابتها مدحاً ولا ذماً.
الصورة الثانية: الكتابة للإعلام وهي: أن يكتب اسم الشخص، وللعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من يرى أن عموم النهي يشملها، وأنه لا يجوز كتابة اسم المقبور على قبره، وأنه يترك كسائر الخلق، حتى يكون ذلك أدعى للاتعاظ والاعتبار، وإذا زار الإنسان قريبه سلم عليه؛ فإن السلام يبلغه، فليس ثم حاجة لتخصيصه بالإعلام.
ورخص بعض أهل العلم رحمهم الله في الكتابة فقالوا: إن المنهي عنه إنما هو الكتابة من أجل الذم والمدح، فخصصوا النهي ولا مخصص، وإنما خصصوه بما عرف في عادة الجاهلية.
والذي يظهر أن المنع مطلقاً أولى، وأنه لا يشرع الكتابة على القبر لا إعلاماً ولا ندباً ولا مدحاً ولا ذماً، وإنما يفعل كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين من بعده، فتترك القبور دون حاجة إلى ذكر الأسماء أو الإعلام بعلامات.
الصورة الثانية: وضع علامة يتميز بها القبر لكي يزور الإنسان قريبة أو يدفن الأقارب بجانب هذا الميت، وقد ورد ما يدل على ذلك في حديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبره أمر بحجرٍ عليه حتى يُعلّم، قال: فأدفن إليه أهل بيته أو قرابته.
قال العلماء: في هذا دليل على مشروعية تعليم القبر للحاجة، حتى يدفن إليه القرابة، وفرقٌ بين التعليم وبين الكتابة، فالكتابة شيءٌ والتعليم شيءٌ آخر، ولا شك أن الكتابة فيها نوع من الإجلال والتمييز لهذا القبر عن بقية القبور، أما وضع العلامة التي لا تكلف فيها، فإنه لا حرج فيها إذا كانت على السنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: حتى يدفن الإنسان إليه قرابته، كأن يكون والداً له أو ولداً، ويريد أن يدفن إليه قرابة فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وفعله، فدل على أنه لا حرج أن يدفن الإنسان عنده قرابته بأن يضع علامةً على قبره.
ومن هنا قالوا: حديث عثمان رضي الله عنه فيه دليلٌ على مسائل: المسألة الأولى: فضيلة عثمان وما له من منقبة؛ حيث خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة إذ أضاف إليه قبر قرابته.
والمسألة الثانية: أن فيه دليلاً على مشروعية إعلام القبر، وهي أن تضع علامةً عليه دون أن تكون شاخصةً بينة تصل إلى الحد الممنوع؛ بل تكون علامة واضحة بقدر، كالحجر الذي يوضع على رأس الرجل من باب الإعلام.
والمسألة الثالثة: مشروعية الدفن بجوار الخير والصالح، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ورود السنة به؛ فإن أبا بكر طلب أن يدفن إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر طلب أن يدفن إلى جوار صاحبيه، ومن هنا نص بعض العلماء على استحباب أن يكون الإنسان مقبوراً إلى جوار العلماء ونحوهم ممن عرف بالفضل والتمسك بالسنة والاستقامة على الطاعة، وهذا عُرِفَ من حال السلف رحمة الله عليهم، ونص شيخ الإسلام رحمةُ الله عليه على أنه درج على ذلك فعل السلف رحمهم الله، دون غلو ودون أن يعتقد أنهم ينفعوه أو يكون هناك غلو في الاعتقاد فيهم؛ وإنما يفعل هذا تأسياً بـ عمر؛ لأن عمر استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن إلى جوار صاحبيه؛ فإذا كان قصد الإنسان أن يصيب ذلك فإنه لا حرج فيه.
ولذلك قالوا: إنه لا حرج أن يطلب الدفن إلى جوار العالم ونحو ذلك ممن عُرِف بالتمسك بالسنة، وهكذا الشهداء من كانت خاتمته على الشهادة.
وهكذا الأرض المقدسة التي لها فضل؛ ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقربه إلى الأرض المقدسة؛ لأن القرب من الأرض المفضلة أولى من البعد منها، والدفن في المواضع المفضلة كبقيع الغرقد ونحوه من الأرض التي شُهِدَ بفضلها أولى من الدفن بغيرها، وهذا بالإجماع؛ فإن الدفن في البقيع أفضل لورود النصوص في تفضيله على غيره.
وأما بالنسبة لضم القرابة بعضهم إلى بعض: فحديث عثمان واضح في الدلالة على هذا؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (حتى أدفن إليه قرابتي).