وشرع الله جل وعلا هذا النوع من العدة لحكم عظيمة وأسرار كريمة تنتظم بها مصالح الدين والدنيا والآخرة، فالمرأة إذا فقدت بعلها وفارقت زوجها وبقيت في بيت الزوجية هذه المدة التي سمى الله جل وعلا تذكّرت حق بعلها عليها، فإن كان قد أحسن إليها كان ذلك أدعى أن تترحم عليه، وأن تحفظ وده، وأن تحفظ ما بينها وبينه من العهد، فتذكره بصالح الدعوات، وتسأل الله جل وعلا أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، وفي ذلك من الأجر العظيم والثواب الكريم لها ولبعلها ما لا يخفى.
كذلك أيضاً: فيه حفظ لحق المسلم الميت، فليست أمة الإسلام أمة ضعيفة تنتهي أواصرها ومحبتها وأخوتها ووشائجها بالموت والفراق كما يحدث لأهل الدنيا، فشرع الله جل وعلا هذا الحداد، فأمر المسلمين أن يذكروا حق الميت المسلم، ومن هنا عَظَّم حق الزوجية، حتى إن الزوج إذا فارق زوجته لا يُنسى الحق الذي له مباشرة، فلو تصورنا أن المرأة بعد وفاة زوجها تنكح في اليوم الثاني أو تنكح بعده بيسير لتناسى الناس حقوق أمواتهم.
ثم انظر إلى الوسطية، فلم يجعل الإسلام هذا الحداد حزناً دائماً، ولم يجعله منقطعاً مخالفاً للفطرة، ولكن جاء بالوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وكان أهل الجاهلية يمكثون عاماً كاملاً، فإذا توفي الرجل عن امرأته دخلت المرأة في مكان وهو حش صغير أشبه بـ (الصندقة)، أو أضيق مكان في البيت، تدخل فيه ثم تمتنع من جميع ما أحل الله عز وجل إلا أكلها، فتبقى في تفثها وشعرها وسوء حالها بالحالة المزرية، لا تغتسل ولا تمس الطيب، وبأبشع الأحوال وأشدها حتى تتم سنة كاملة، ثم بعد ذلك تفتض ببعرة كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:(وقد كانت إحداكن تجلس حولاً كاملاً في حشها حتى يبلغ الكتاب أجله، ثم تفتض ببعرة) فخفف الله سبحانه وتعالى ويسر، فأحل لها الطيبات، ولكن منعها من الزينة، ومنعها من الحلي، ومنعها من التجمل في جسدها وثيابها، فأبقى حق الزوج، وكذلك أيضاً لم يضيق على الزوجة مع أنها تثاب وتؤجر على هذا الامتناع والطاعة لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لامتثال الأمر بالإحداد واجتناب ما نهيت عنه المرأة المحتدة، فالمقصود: أن الحداد فيه حكم عظيمة وأسرار كريمة.
كذلك أيضاً: لا يسع المؤمن إلا أن يسلم أمره إلى الله عز وجل ورسوله، فالمدة التي سماها الله عز وجل أربعة أشهر وعشراً قال بعض العلماء: لو كانت حاملاً يتبين حالة الجنين خلال هذه المدة التي هي الأربعة أشهر وعشراً، وقالوا:(لأنه يجمع خلق الإنسان أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فيؤمر بنفخ الروح وكتابة أجله ورزقه، وشقي هو أو سعيد) كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، فقالوا: إن هذا النفخ يقع في العشرة الأيام التي تلي الأربعة الأشهر، فإن الأربعة الأشهر -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- مائة وعشرون يوماً، وهي تمام ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، ثم الأربعون، ثم الأربعون، ثم تأتي العشر، ذكر هذا بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، ولكن مع هذا الله يأمر ويحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم.