[بيع الثمر وما يجز ويلقط من الزرع]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوه كباذنجان، دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال، أو جزة جزة، أو لقطة لقطة]: ذكرنا أن السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم بيع الثمرة قبل بدو الصلاح، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، نهى البائع والمشتري.
وذكرنا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً بمعناه.
ومعناه أن الشريعة لا تجيز بيع الثمار، ولا بيع محاصيل المزروعات إذا كان بيعها على وجه فيه غرر وتغرير ومخاطرة على المشتري.
وبناء عليه قلنا: لا بد من بدو الصلاح في الثمار، سواء أكانت من النخيل أم كانت من غيره من المزروعات، وبينا هذا كله.
لكن السؤال يتعلق ببعض المزروعات التي تجز محاصيلها، وبعضها تلتقط، كالرطبة، فإن أصلها ثابت، ويجز ظاهرها، فتجز الجزة، ثم تنبت مرة ثانية، ثم تجز، وهكذا بعض أنوع الجزر الذي يؤخذ ورقه علفاً للدواب، يجز ظاهره ويبقى أصله، وكذلك أيضاً البرسيم يجز ظاهره ويبقى أصله في الأرض، فإذا باع رجل برسيماً، كأن يأتي رجل يريد حوض برسيم من صاحب مزرعة، فيقول له: بعني هذا الحوض من البرسيم، فقال له: أبيعك بمائة، قال: قبلت، فإنه في هذه الحالة قد اشترى البرسيم بالجزة الظاهرة، فلا يجوز أن يشتري البرسيم بأصله، وذلك لأنه لا يعلم، ولا ندري كم جزة ستكون فيه، ولا ندري كم سيكون بقاؤه في الأرض، فبعض البرسيم قد يبقى سنة، وبعضه قد يبقى ثلاث سنوات، وقد يبقى إلى فوق خمس سنوات، كما في البرسيم الحجازي، فإنه يجلس إلى أكثر من خمس سنوات، وربما إلى عشر سنوات، فلو أنه باعه البرسيم الظاهر شيئاً موجوداً، لأنه يكون في الظاهر في شيء موجود، لكن بالنسبة لما هو باطن في السنوات والشهور والأيام الآتية فإنه مجهول كبيع الثمرة في النخل سنين وأعواماً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه نهى عن بيع السنين والمعاومة، وبيع السنين والمعاومة كما فسره العلماء رحمهم الله تعالى: هو بيع الثمرة -أعني ثمرة النخل- سنوات، فيقول له: أشتري منك محصول مزرعتك من التمور ثلاث سنوات، فلا يجوز هذا؛ لأنه وإن كان في السنة الأولى قد باع ثمرة قد بدا صلاحها، ففي السنة الثانية مجهولة وفي السنة الثالثة مجهولة، فكذلك لو باعه البرسيم الذي يجز على مراتب، فلو كانت الجزة الأولى ظاهرة فإن ما سيأتي مجهول.
وعلى هذا فإنه لا يباع من الشيء الذي يجز مرات مع بقاء أصله إلا الجزة الظاهرة، فتقول له: أبيعك هذا الحوض الموجود الآن بمائة، أو أبيعك هذه الخمسة الأحواض بخمسمائة، فاشتراها بخمسمائة ثم قام بجزها علفاً لدوابه، فلا حرج وهو جائز، لكن لو قال له: أشتري منك هذا البرسيم مدة بقائه في الحوض، لم يجز؛ لأنه بيع مجهول، ويغرر به، فربما ظن أن هذا البرسيم يبقى في الحوض سنة، فإذا به يبقى أقل، وربما ظن البائع أنه سيبقى سنة ثم سيبيع حوضاً ثانياً، فإذا به يبقى خمس سنوات، فهو من بيع المخاطرة، ثم هو بيع للمجهول، لا يدرى أيوجد أو لا يوجد، وهل يخرج جيداً أو يخرج رديئاً.
والخلاصة: أن المصنف هنا يريد أن يطبق القاعدة في بيع الأصول والثمار، وهي أنه لا يجوز بيع الغرر.
وبيع الغرر في بيع الأصول والثمار.
فالبرسيم له أصل، وله ثمرة هي نتاجه الظاهر، والجزة الظاهرة، وكذلك الرطبة لها أصل، وهو الذي يسمى بالجزر، وهو غير الجزر المعروف الذي يعصر، وإنما الجزر السميك المتين هذا الذي يباع وله ورق يزحف على الأرض يقطع علفاً للدواب، هذا النوع من الجزر، وهذا النوع من العلف الذي هو البرسيم لا يباع إلا جزة ظاهرة، ولا يباع أصله مع ثمرته؛ لأننا لا ندري كم ينتج الأصل.
لكن لو باع المزرعة وكان فيها صح تبعاً، ولم يصح أصلاً، وقد بينا القاعدة: أنه يجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل، وبينا ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله رحمه الله تعالى: [ولا رطبة].
أي: ولا يجوز بيع الرطبة، وفي حكمها كل شيء مما يكون مستتر الأصل، ظاهر الثمرة فلا يباع إلا الثمرة، ولا يباع النتاج إلا على الظاهر، أن يأخذ ظاهره جزة جزة، أو لقطة لقطة، كما سيأتي في لفه ونشره رحمه الله.
قوله: [وبقل]: البقول كما لا يخفى تستتر في الأرض، ولما قلنا: أنه لا يجوز بيع الظاهر من البرسيم إلا جزة جزة، لا يجوز أيضاً بيع البقول إلا لقطة لقطة، ومن هنا فلا يجوز بيع الفجل، ولا يجوز أيضاً بيع الكرّاث، إلا إذا كان قد استخرج الفجل من الأرض، وهكذا بالنسبة للكرّاث، تكون الجزة الظاهرة هي التي تباع؛ لأن الكرّاث كالبرسيم، إذا استتم طوله جزه، ثم ينبت مرة ثانية، ثم يجز فينبت مرة ثالثة، فلا يبيع أصل الكرّاث وفرعه، وإنما يبيع الجزة الظاهرة، وهذا على القاعدة التي ذكرناها: أنه لا يصح البيع إلا لشيء معلوم لا يغرر فيه بالمشتري، وإنما يكون المشتري على علم وبينة، حتى يعلم أن المال الذي يدفعه هل يُستحق لهذا الشيء، ويعلم ما الذي له وما الذي عليه، فلا يجوز إلا لقطة لقطة بالنسبة لما يلتقط، وجزة جزة بالنسبة لما يجز، وهذا كله دفعاً للضرر الذي اشتمل عليه هذا النوع من بيوع الغرر.
قوله: [ولا قثاء]: القثاء معروفة، والقثاء إذا أثمرت يكون بعض الحبوب مستتم الخلقة، وبعضها صغيراً، وبعضها متوسطاً، فمنها ما استتم خلقه، ومنها ما لم يستتم، وبناء على ذلك يقولون: لا يبيع إلا الذي استتم خلقه، ومن هنا كما قلنا: لا يجوز بيع المجزوز إلا جزة ظاهرة، جزة جزة، كذلك الملتقط لا يجوز بيعه إلا ما كان متأهلاً صالحاً للالتقاط، أما الذي لم يصلح للالتقاط، فإن بيعه كبيع الحب قبل اشتداده، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، والقاعدة واحدة، والشريعة جاءت بقاعدة، وهي أن بدو الصلاح تؤمن معه العاهة غالباً.
فإذاًَ بعد أن قررت القاعدة فوردت في النخل، ووردت في الحبوب، فأصبح النخل أصلاً لما ظهر، والحبوب أصلاً لما يحصد، هذا أصل، وهذا أصل، والمعنى في كل منهما أن لا يغرر بالمشتري، ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية حافظة لحق البائع، حافظة لحق المشتري، فكل يشتري الشيء بيناً واضحاً دون أن يغرر البائع بأخيه المسلم، ودون أن يشتري المسلم شيئاً يجهله، فيغرر بماله ويخاطر بحقه.
قوله: [ونحوه كباذنجان]: ذلك؛ لأن فيه الصغير والكبير، وما بدا صلاحه وما لم يبدُ، فلو قال له: أبيعك محصول الباذنجان هذا، فإنه لا يجوز.
وقال بعض العلماء في القثاء والباذنجان، كما هو مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى وطائفة: يجوز بيع كله إذا بدا الصلاح في بعضه، قياساً على النخيل، ولا شك أن الغرر في الباذنجان والقثاء أعظم من الغرر في النخيل، فإن النخيل، إذا بدا الصلاح في بعضها فغالباً تؤمن العاهة فيها كلها، ولكن المحاصيل تختلف عن ذلك، وهذا معلوم بالتجربة، ورجح بعض العلماء قول من قال بالجواز، وقال: إن الذي هو صغير، أو لم يظهر في حكم الظاهر، ولكن هذا ضعيف، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علل النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بخوف الآفة والعاهة، وهذا المعنى موجود في المحاصيل التي لم يستتم خلقها.