[من شروط صحة الوصية أن تكون في تصرف معلوم يملكه الموصي]
قال رحمه الله: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر في صغاره].
قوله: (ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم) هذا هو الشرط الأول، والشرط الثاني: (يملكه الموصي)؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، والوصية بالمجهول فيها غرر، ولا يمكن أن تتحقق بها المصلحة، ولا أن تدرأ بها المفسدة، وإذا عهد إليه، فلابد أن يحدد ما عهد إليه، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رد المظالم -الحقوق إلى أصحابها- فتقضي عني الديون، وترد الودائع، والأشياء التي استعرتها، مثال ذلك: شخص له مكانة في قومه، فاستعار من أناس أشياء، أو عنده أمانات وضعها عنده أناس، فقال: هذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان.
كذلك أيضاً بينه وبين أشخاص خصومات ومظالم وقعت، فقال: يا فلان: أنت وصيي في رد المظالم والحقوق إلى أهلها، وقضاء ديوني، ورد العواري والودائع إلى أصحابها، فحينئذ تكون الوصية واضحة ومعلومة وبينة.
كذلك أيضاً من حقه أن يوصي بهذا الشيء، فيوصي بالحج والعمرة عنه، ويوصي كذلك بولاية مصالح أيتامه؛ لأنه في الأصل هو الذي يطالب بالحج، وفي الأصل هو الذي يطالب بالعمرة، وفي الأصل هو الذي يطالب بالكفارات وبالفدية، فيجوز أن يقوم غيره مقامه؛ لأنه كالوسيط.
لكن لو لم يكن من حقه أن يتصرف في هذا الشيء، فليس من حقه أن يوصي به، فلو أوصى بأن يتصرف في أموال أخيه، فقال له: أنت وصيي من بعدي أن تبيع مزرعة أخي، وليس من حقه هو أن يبيعها، فمن باب أولى أن لا يكون للوصي ذلك.
إذاً: يشترط في الشيء الذي يعهد به إلى الوصي أو يوصى به: أن يكون مما للموصي فيه حق التصرف، وعلى هذا فالمرأة ليست بمسئولة عن أيتام، وإنما ولاية النظر لمن أقامه أبوهم أو أقامه الحاكم والقاضي للنظر في مصالحهم، فهي لا تلي أمورهم بالأصل، فمن باب أولى أن لا تقيم غيرها مقامها.
قال رحمه الله: [كقضاء دينه].
وذلك كأن يقول له: فلان له عليَّ مائة ألف، وفلان له عليَّ خمسون، وفلان له عليَّ كذا، وفلان أخذت منه سيارة، ورد الودائع والعواري والأمانات؛ فكل هذه أمور خاصة ومعلومة.
قال رحمه الله: [وتفرقة ثلثه].
وكذلك تفرقة الثلث، كأن يقول له: ثلث مالي اجعله صدقة على الفقراء، أو نصف الثلث يكون صدقة للفقراء، والنصف الثاني يكون في سبيل الله، ويقوم فلان بصرف هذا الثلث، والقيام عليه، فحينئذ يكون هذا الوسيط مطالباً بتنفيذ ما ذكره الميت والموصي في وصيته من تخصيص نصف الثلث للفقراء والمحتاجين، والنصف الثاني يصرفه في سبيل الله، على الشرط الذي اشترطه الميت والموصي.
قال رحمه الله: [والنظر لصغاره].
أي: يقوم على أموالهم فينظر فيها، والنظر في الأيتام: إطعامهم بالمعروف، وكسوتهم بالمعروف، وإذا احتاجوا إلى دواء أو علاج قام بعلاجهم، وإذا احتاجوا إلى سيارة تنقلهم؛ استأجر من ينقلهم، أو اشترى لهم سيارة، واستخدم أو استأجر من يقوم بنقلهم، وإذا احتاجوا لشراء أرض أو بيت يؤويهم ويسكنون فيه يقوم هو بشراء البيت، ويبحث لهم عن سكن، وينظر في الأصلح، هل يشتري سكناً غالياً أو وسطاً أو أدنى.
هذا كله أسند إليه النظر فيه، فهو مسئول أمام الله عز وجل عنهم، فيُنزل نفسه منزلة والدهم، شفقة، وإحساناً، وبراً، فيعطف عليهم، ويقوم برعاية مصالحهم؛ لأنه من أعظم الأشياء أن شخصاً ينزله كمنزلته في النظر لأولاده، وهذا أمر ليس بالهين، وثقته ليست باليسيرة.
فالعبد المؤمن يخاف من الله عز وجل، ويتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة، وينصح ويحس أن هؤلاء الأيتام كأنهم أولاد له، فيحسن النظر فيهم، ولذلك ضرب السلف الصالح والفضلاء والصلحاء المثل السامي في حسن النظر للأيتام، ورعايتهم الأيتام الذين عهدوا إليهم برعايتهم، حتى جاء في بعض القصص أنه كان بعض الصالحين يقوم على رعاية أيتام أخيه أكثر من رعايته لأولاده، مع أنه لا يضيع حقوق أولاده، لكنه يشفق عليهم الشفقة ويرحمهم الرحمة التي بلغت الأوج والكمال في حسن النظر والتفقد، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا زار أختاً له وعندها أيتام، يتحرج حتى من أكل ضيافتها، خشية أن يكون آكلاً لمال اليتيم، وهذا كله من الورع والخوف من الله عز وجل؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم، فالذنب الذي بين العبد وبين ربه، لو استغفر ربه غفر له، لكن حقوق الناس لابد فيها من القصاص، فلا يمكن أن تزول قدماه حتى يقتص منه؛ فيؤدي الذي عليه ويأخذ الذي له.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧]، وقال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:٢٥٦]، فيأتي بها الله جل جلاله الذي هو أحكم الحاكمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، فإذا كانت لليتيم فأمرها عظيم، وإذا كانت على وجه الأمانة فأمرها أعظم؛ لأن الإنسان إذا أقيم على أيتام وعلى وصية، وقال له الميت: إني قد عهدت إليك بكذا وكذا، ووافق وقبل، فإن عليه أن يفي بهذا العهد الذي بينه وبين أخيه المسلم أو قريبه.
فإذا كانت من القريب فعهدها أعظم، فالواجب حينئذ أن يحسن النظر في مصالح هؤلاء الأيتام، والنظر في مصالحهم يشمل: إطعامهم، وكسوتهم، وإيواءهم، ونقلهم، ونحو ذلك من المصالح، فلو ترك لهم والدهم سيولة من المال، ورأى الموصى إليه أن هذا المال لو بقي لأكلته الزكاة، فرأى من المصلحة أن يشتري لهم أراضي، أو يشتري لهم عمائر، أو يستثمر المال ويتاجر فيه، فقد أحسن النظر في مصالحهم.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكله الصدقة)، فدل هذا على أنه ينبغي للولي والوصي أن يحسن النظر في شئون الأيتام، فيحقق المصالح المطلوبة، ويدرأ المفاسد التي يخشى منها، فلو وجد مثلاً أنه ترك لهم أرضين، والسوق يخشى أن يكسد، فخاف من كساده، فليبادر ببيعها، وإذا كان هناك أشياء تركها لليتامى يخشى منها الضرر، كأن يكونوا في مكان بعيد عن المدينة، وفيه ضرر عليهم، ويخشى عليهم، قربهم إذا خشي على أعراضهم، وأبعدهم عن الأماكن التي فيها فساد وتأثير على أخلاقهم.
المهم أنه ينصح لأخيه المسلم في ذريته من بعده، ومن كفل اليتيم وأحسن الرعاية له، كان له عند الله حسن الجزاء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وكان بعض العلماء يقول: (ما رأيت أحداً وفى بمسلم في أيتامه إلا أحسن الله له العاقبة في ولده)، فما رأى إلا خيراً، وجعل الله له قرة العين، وبهجة النفس وسرورها في ولده {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠]، وما ينتظره عند الله أعظم وأكبر، فلا شك أن القيام على الوصايا وحسن الرعاية لها وحسن النظر فيها، من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.