يقول رحمه الله:(تصح) أي: الوكالة، (بكل قولٍ يدل على الإذن)، فالوكالة تكون بالقول، وتكون بالفعل، وبكل ما يدل على الإذن بأن يقوم الشخص مقام موكله، أما قوله:(تصح بكل قولٍ) فالقول ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسميه العلماء: القول الصريح.
القسم الثاني: القول غير الصريح، وهو الظني الذي يدل على أنه وكلك بصيغةٍ أو بلفظٍ غير صريح بل محتمل، لكنه يتضمن معنى الإذن، فأما إذنه لك بالوكالة فيقول: يا محمد أو يا عبد الله وكلتك أن تشتري لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، فحينئذٍ وكلك بصريح القول، وقد يوكلك بالفعل، مثلاً: تجد العامل إذا كان يعمل مع شخص في دكانٍ فجاء إلى صاحب الدكان وقال: انتهى الماء عندنا، ومن عادته أن يشتري الماء بمائة ريال، فأخذ صاحب الدكان مائة من جيبه ورماها للعامل، ما معناه؟ معناه: قد وكلتك أن تذهب وتشتري لنا ماءً مثل ما كنت أو عهدت أو كان بيننا فيما تقدم، فهو لم يتكلم ولم يقل له: وكلتك أن تشتري، بل هذه دلالة الفهم، فعندنا دلالة القول وعندنا دلالة الفهم، ودلالة القول الصريح منها: وكلتك، والضمني كأن يقول له: خذ، ولا يوكله بصريح القول: وكلتك، أو يقول له: قم بالشيء، افعل الشيء، ولا يأتِ بصريح لفظ الوكالة، فعندنا اللفظ الصريح: وكلتك، واللفظ غير الصريح: قم بالأمر، تولَّ الأمر، انظر في الأمر، ونحو ذلك مما هو متضمنٌ للإذن وليس بصريح، وأما الفعل: كأن يلقي له المال دالاً على الإذن بالشراء أو نحو ذلك من التصرفات التي تتضمن معنى النيابة.
قال رحمه الله:[ويصح القبول على الفور والتراخي بكل قول أو فعل دال عليه].
عندنا الوكالة فيها: صيغة، وموكل، ووكيل -وهما العاقدان- ومحل الوكالة، أما العاقدان: فوكيل وموكل، ولا تقع الوكالة إلا بطرفين: أحدهما موكِّل والثاني: موكَّل أو وكيل؛ أما الصيغة فالتي ذكرناها، وتشتمل على الإيجاب والقبول، والمحل يشتمل على المطلوب فعله من الوكيل، فأما بالنسبة للمصنف رحمه الله فابتدأ بأحكام الصيغة، وإذا قال العلماء: صيغة الوكالة، صيغة الصلح، صيغة البيع، صيغة الإجارة، فهناك جانبان لا بد وأن يضعهما طالب العلم أمامه: الإيجاب والقبول، فهناك إيجاب صادر من الأهل وهو قوله: وكلتك، وهناك قبول من الطرف المقابل يقول: قبلت، فالصيغة تقوم على جانبين: الإيجاب والقبول، فلما أراد المصنف أن يبين أحكام الصيغة ابتدأ بالإيجاب، وذلك بقوله:(تصح بكل قولٍ دالٍ على الإذن)، كما ذكرنا: الصريح وغير الصريح، وفي حكم القول: الفعل، وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله -وهذا أصل سبق وأن نبهنا عليه- مسألة تنزيل الأفعال منزلة الأقوال، وذلك في كتابه النفيس: القواعد النورانية، وهو من أنفس ما كتب في القواعد الفقهية التي قعدها ونظرها، وبين فيها أن أصول الشريعة الإسلامية لا تلزمنا في العقود بلفظٍ معين أو صيغةٍ معينة إلا إذا دلّ الدليل على الإلزام، وأن الناس يعتدون بما تعارفوا عليه من الصيغ إيجاباً وقبولاً، وبناءً على ذلك نأخذ صيغة الوكالة، فعندنا إيجاب وعندنا قبول، ونقول: القاعدة في ذلك: كل ما تعارف الناس عليه أنه يتضمن معنى الوكالة فهو وكالة، إن كان بالقول فقول، وإن كان بالفعل ففعل، ويعتبر صيغة للوكالة.
بقي أن نقول: القول في الوكالة وصيغة الوكالة يكون من الموكل والوكيل، فبعد أن فرغ -رحمه الله- من الموكل، وقوله:(وكلتك) فلا بد وأن يكون هناك ما يقابله وهو القبول.