[حكم تكرار لفظ الظهار لأكثر من امرأة أو أكثر من مرة]
قال رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره].
بعد أن بين رحمه الله حقيقة الظِهار وجملة من المسائل المتعلقة بأركانه بين أن الأصل أن يكون الظِهار مرة واحدة، فالله عز وجل أوجب الكفارة على من ظاهر إذا تلفظ بالظِهار مرة واحدة، ولا يشترط أن يكرر لفظ الظِهار، خلافاً لبعض أئمة السلف وبعض الظاهرية، ويحكى عن داود، ويحكى مذهباً للظاهرية، وهو أنهم يشترطون في وجود الكفارة العود في التلفظ بالظهار مرة ثانية.
والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو تلفظ به مرة واحدة فإنه مظاهر وحكمه حكم المظاهر، وهذا هو الأصل.
فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان الأصل شرع في مسألة تكرار الظهار، وهذا من التسلسل المنطقي وترتيب الأفكار، وهو أنك إذا بينت المسائل والأحكام تبدأ بالأشياء التي هي الأصل، فالأصل ألا يكرر، ثم بعد أن تبين حكم الأصل تشرع في حكم الخارج عن الأصل، مثل تكرار اللفظ على امرأة واحدة، أو تكراره لأكثر من امرأة.
فلو أنه قال لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم رجع مرة ثانية وقال: أنتِ عليّ كظهر أمي.
أنتِ عليّ كظهر أمي.
فكرر ثلاثاً في مجلس واحد، أو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
ثم خرج من المنزل فلقي أخاها فقال: أختك عليّ كظهر أمي.
ثم خرج إلى أصحابه أو إلى قرابته فقال: زوجتي عليّ كظهر أمي.
فهذا ظهار مكرر في محل واحد وهو الزوجة، فلا تلزم فيه إلا كفارة واحدة، ويستوي في ذلك أن يكون مؤكداً أو مخبراً أو مؤسساً، كأن يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي.
أنتِ عليّ كظهر أمي، فأراد أن يؤكد أنه قد قال الظِهار فكرره ثلاثاً أو كرره مرتين في مجلس واحد، أو كرره أكثر من مرة تأكيداً في مجلس مختلف، كأن قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
فلما نقلها عند أهلها قالت له: هل أنت ظاهرت مني؟ فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي تأكيداً لما قاله لها في الخلوة.
وهذا كله حكمه واحد، وليس في ذلك إلا كفارة واحدة، سواءٌ أكان مؤكداً أم كان مؤسساً أم كان مخبراً، وهذه صورة.
والصورة الثانية: أن يقع التكرار لأكثر من زوجة، أو يكون العكس، فيتعدد المحل (الزوجات)، ويتحد لفظ الظهار، وهذا ما أشار إليه بقوله رحمه الله: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير] إذا كرر اللفظ لامرأة.
وهذا كله شرطه قبل أن يكفر، أما لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي ثم كفر، ثم رجع مرة ثانية فقال: أنتِ عليّ كظهر أمي فإنه تلزمه كفارة ثانية.
وكذلك في اليمين لو قال: والله لا أشرب هذا الماء.
فحنث وكفر، ثم رجع مرة ثانية وحلف فكفارة ثانية، فالشرط المعتبر لكفارة واحدة أن يقع منه التكرار قبل التكفير.
قوله: [من واحدة] أي: تلزمه كفارة واحدة إذا كرره أكثر من مرة لامرأة واحدة.
وقوله: [لظهاره من نسائه بكلمة واحدة].
لو أنه ظاهر من نسائه فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي.
فقاله لمجموعة من النساء وهن زوجات له فإن العلماء والأئمة والسلف اختلفوا في هذه المسألة، فقال بعض السلف: إذا خاطب نساءه فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، فإذا كن أربع نسوة فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي فلا تلزمه إلا كفارة واحدة بظهاره منهن.
وهذا القول مروي عن عمر بن الخطاب، رواه عنه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سئل، عن رجل قال لنسائه: أنتن عليّ كظهر أمي.
وأراد أن يعود؟ قال: عليه كفارة واحدة.
فجعله ظهاراً واحداً.
وممن قال بهذا القول من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحكي عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب، واختاره بعض الأئمة الأربعة كما ذكر المصنف رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقول الإمام الشافعي في القديم، وكذلك المالكية رحمة الله على الجميع.
وقال بعض أئمة السلف: إذا قال لأكثر من واحدة: أنتن عليّ كظهر أمي فإنه يتعدد الظِهار بتعدد المحل.
وهذا القول هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، ومروي عن بعض أئمة السلف كـ الأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم رحمة الله على الجميع.
والقول الثاني في الحقيقة أقوى من حيث الأصل، وأقوى من حيث الدليل؛ لأنه حينما خاطب نساءه تعلق الظِهار بكل امرأة على حده، كما لو قال: نسائي طوالق، وكانت واحدة منهن مطلقة مرتين، فمعناه أنها الطلقة الثالثة المحرمة أو كانت إحداهن غير مدخولٍ بها كانت طلقة بائنة، أو كانت إحداهن مدخولاً بها وقد طلقها من قبل طلقة واحدة فصارت طلقة رجعية.
فيختلف الطلاق ويتعدد، ويصبح لكل زوجة طلاقها الخاص بها.
وبناءً على ذلك فإن القول بوجوب الكفارة بعدد النساء اللاتي ظاهر منهن قول أقوى، وهو أشبه بالأصول.
وإنما عدل من عدل من السلف والأئمة رحمهم الله إلى ذلك القول لمسألة الاحتجاج بقول الصاحب، وقد سبق الكلام عنها.
قال رحمه الله: [وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات] هذا مفهوم من قوله قبل [بظهاره من نسائه بكلمة واحدة] فلو ظاهر منهن بكلمات قالوا: إن هذا يتعدد بتعددهن، ولكل واحدة منهن ظهارها.
فالشرط عند أصحاب هذا القول أن تكون كلمة واحدة، فيقول لهن جميعاً: أنتن عليّ كظهر أمي، ويخاطبهن جميعاً بكلمة واحدة ولا يكرر، فإن كرر فإنه يتكرر بتكرار الظهار، ولكل امرأة ظهارها.