للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الوساوس في العبادة والغلو فيها]

السؤال

امرأة تسأل وتقول: إنها تصلي ولكنها لا تشعر بأنها تصلي، وتصوم ولكن لا تشعر أنها تصوم، فبالتالي تفطر، ولو أذنبت ذنباً فإنها تتوقف عن كل عمل صالح، نرجو التوجيه أثابكم الله؟

الجواب

هذه الأخت نوصيها بتقوى الله عز وجل، وأن تتحرى الحق والصواب، فليس من الصواب هذا الاعتقاد, والغلو في العبادة، أنها لا تعتبر نفسها في عبادة إلا إذا شعرت شعوراً تاماً كاملاً، من هذا الذي يصلي صلاة تامة كاملة؟ من هذا الذي يصوم صياماً تاماً كاملاً؟ لقد تولى الله جبر كسر عباده، وتكميل نقصهم، ورحمة ضعفهم، فعلى هذه الأمة من إماء الله أن تتقي الله في عبادتها لربها، وألا تشدد على نفسها، فإن هذا من الشيطان.

صومي وصلّي فإن حضر قلبك في الصلاة ففضل من ربكِ عليكِ، وإن شغلت أو ضللت عن بعض الصلاة فلا تقطعيها، بل أتمي الصلاة، وإذا كنت في آخر الصلاة فتندمي على فوات ما فات من الخشوع، وبهذا تغيظين الشيطان، وتقهرين عدو الرحمن.

فإن العبد الصالح إذا حصل منه ذنب، أو حصلت له خطيئة، وقال: أنا لست من الصالحين! سأترك طلب العلم، ومجالس الصالحين، ويأتيه الشيطان ويقول له: كيف تجلس مع الأخيار وأنت تفعل وتفعل! هذا كله من تخذيل عدو الله قاتله الله، الشيطان الذي قعد بين العبد وبين ربه، والله أرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).

فالعابد يبحث عن مرضاة الله عز وجل، فإذا حصل منه الهم أو التقصير ندم، والندم بعد المعصية وفوات الطاعة يبلغ العبد الأجر كاملاً، وبهذا يصفع عدو الله على وجهه، ويقتله من الغيظ، حتى إنه لربما كرر هذا مرات فلا يعود الشيطان إليه، بل إنه يجده يرضخ، فعليها كلما وقعت في معصية أن تندم ندماً صادقاً وأن تشتكي إلى ربها.

إن من أسعد اللحظات وأجملها أن الإنسان إذا أصابته الهنة والزلة انكسر قلبه، وذلت رقبته، وفاضت بالدمع من خشية الله عيناه, وقال: رباه رباه! اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فيفرح الله بتوبته، وفرح الله بهذا الشعور، وبهذه الإنابة، وبهذا الإقبال، وينادي الله في ملائكة قدسه: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي).

ما هذا الذي تريده المرأة؟ أتريد امرأة كاملة لا نقص فيها بالعبادة، لو أن امرأة أتمت عبادتها فماذا يحدث في الدنيا؟ لو أن كل مصل يصلي صلاة تامة كاملة، وكل من يصوم يكون صيامه تاماً كاملاً، والله لتغير وجه الأرض، لو كانت العبادة تامة كاملة لرحمنا الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦].

فكلنا تحت رحمة الله عز وجل، وكلنا تحت لطفه وبره وإحسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

يا أمة الله! عليك أن ترفقي بنفسك، وأن تتقي ربكِ، وألا تتركي الخير ولا تزهدي، بل إن تسلط الشيطان على المطيع بعد طاعته دليل على أن فيه خيراً، وأنه يلتمس منه مواطن الضعف، فاقتل عدو الله عز وجل بغيظه، وأصبه في مقتله بالتوبة الصادقة لله عز وجل، وإن الشيطان لا أحقر منه مع العبد عند ساعة التوبة، ما من عبد يتوب إلى الله عز وجل إلا كانت ساعة حنق وغيظ على عدو الله إبليس، هذه الساعة المريرة المقاتلة حينما يجد العبد يفعل المعاصي ويذنب ثم يتوب إلى ربه، فيرجع كيوم ولدته أمه، بالتوبة الصادقة.

فابذلي كل الأسباب على ألا تعصي الله عز وجل، فإذا وقع منكِ شيء من المعصية أحسنتِ الظن بالله مباشرة، وأقبلتِ على الله وصدقتِ مع الله عز وجل، وأبشري من الله بكل خير: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:٤٩] لكن: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:٥٠].

لا بد من الجمع بين الرغبة والرهبة، فالرهبة لا تصل إلى درجة ترك الطاعات، فهذا خوف كاذب، وخشية كاذبة، الخشية الصادقة هي التي تحمل على كمال الطاعات، والخشية التي تحمل على حسن الظن بالله عز وجل مرفوقة بالرجاء بالله سبحانه وتعالى، فهي خشية صحيحة على منهج الكتاب والسنة: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:٥٧] وهما جناحا السلامة للعبد.

لكن أن تكون سبباً في ترك الطاعات والإعراض عن الله عز وجل، فهذا قنوط من رحمة الله والعياذ بالله، وسوء ظن بالله، ومن أحسن الظن بالله كان الله عند حسن ظنه، بل الله كريم وأكرم سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:٣] سبحانه وتعالى, وصيغة أفعل (أكرم) تدل على بالغ الكرم منه سبحانه وتعالى.

فننصح هذه المرأة وننصح كل مسلم أن يحسن الظن بالله عز وجل، وأن يصدق الرجاء في الله عز وجل، ومن أحسن ظنه بربه رجي له الخير في دينه ودنياه وآخرته، والله تعالى أعلم.

نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدنا وإياكم بعونه وتوفيقه، وأن يتقبل منا ومنكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>