[الحقوق الواجبة على الأحياء تجاه الميت]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول رحمه الله: [فصلٌ: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية].
تغسيل الميت من فروض الكفاية، أما كونه فرضاً فلورود الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها بماءٍ وسدر) وهذا أمر في ابنته لما توفيت رضي الله عنها وأرضاها.
وقال في الرجل الذي وقصته ناقته كما في حديث ابن عباس في الصحيحين: (اغسلوه بماءٍ وسدر) وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب والفرضية.
وهذا الوجوب فرضٌ كفائي بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به البعض، فإنه يتعلق وجوبه بالجميع، بحيث يأثمون إذا قصروا جميعهم ولم يقم أحدٌ بتغسيله.
ويتولى التغسيل من يكون على علمٍ به، فلا يجوز أن يتولى تغسيل الميت من لا يُحسن تغسيله؛ لأن من لا يحسن التغسيل ولا يقوم بحقوق التغسيل كما ينبغي، فوجود تغسيله وعدمه على حدٍ سواء، ولربما ضيع أموراً واجبة وأخل بالغسل، ولذلك لا يلي التغسيل إلا من يعلمه.
ومن هنا يجب على طالب العلم ومن يبتلى بمثل هذه الأمور أن يكون على علم وإلمام بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تغسيل الميت، وأمره بالأمور التي ينبغي مراعاتها في هذا التغسيل.
الميت الأصل أنه يُغسّل؛ لكن يسقط تغسيل الميت في مواضع: أولها: إذا كان شهيداً كما سيأتي، فالشهيد لا يغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادفنوهم بدمائهم) فأمر بدفن الشهداء بدمائهم، وذلك لأن دماءهم شهادةٌ لهم بين يدي الله عز وجل، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من كلمٍ -يعني جرح- يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً، اللون لون دم والريح ريح مسك) فهو شهيدٌ له بين يدي الله.
ثم إن هذا الدم فضلة طاعة وقربة لا تشرع إزالتها، ومن هنا قالوا: إنه لا يغسل، ولا يعتبر داخلاً في هذا الأصل، لكن يختص هذا الحكم بشهيد المعركة، أي: الذي قتل في نفس ساحة المعركة، أما لو أنه خرج وفيه الحياة، وبقي بعد ضربه ثم توفي بأثر الجراح، فإنه يغسل ويكفن ويعامل معاملة الأصل؛ لأن سعداً رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغسيله، فغسل وكُفّن وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصيب في سبيل الله ثم مات بعد ذلك فشهيد المعركة لا يغسل.
ممن يستثنى في التغسيل: أن يكون الميت قد احترق، بحيث لو غسل نفط جلده، أو يكون به مرض كالجدري ونحو ذلك -أعاذنا الله وإياكم من الأدواء- فلو غسل لتضرر، أو يكون معه مرض لو قام مغسله عليه، لم يأمن بتضرره بتغسيله، بحيث إنه لا يمكنه أن يغسله؛ لأنه لو غسل انتقلت العدوى، أو به أشياء تنتقل بمباشرة التغسيل فهذه أحوال تستثنى من التغسيل.
أيضاً: سيذكر المصنف رحمه الله حالة الرجل بين النساء، فالرجل إذا توفي بين النساء وليست هناك زوجة له منهن ولا أمة؛ فإنه حينئذٍ ييمم ولا يغسل، كذلك العكس: لو أن المرأة توفيت بين الرجال، وليس لها زوجٌ منهم، ولم تكن أمة معها سيدها فحينئذٍ تيمم ولا تغسل.
هذه الأحوال هي التي تستثنى من هذا الفرض والأمر الواجب.
وتغسيل الميت المراد به: تعميم جسده بالماء، وهذا الحكم يشمل جميع أعضاء الجسد بالتفصيل الذي سيذكره المصنف رحمه الله.
قوله: [وتكفينه].
سيبين رحمه الله تفصيل التكفين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين) فقوله: (كفنوه) أمر، والأمر يدل على الوجوب، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بتكفين ابنته، فأمر صلى الله عليه وسلم بتغسيلها فقامت النساء بتكفينها، ومن هنا يقول العلماء: إن حديث ابن عباس يدل على أن تكفين الميت واجب وفرض.
وهذا التكفين فرضٌ كفائي، لكن التكفين ليس كالغسل، فالغسل يكون بالماء وهو غالباً يتيسر؛ لكن -مثلاً- لو كان هذا التكفين يحتاج فيه إلى وجود النفقة التي يكون بها مئونة التكفين، وحينئذ تتصل بميراث الميت، وهي من الحقوق التي تخرج قبل قسمة التركة من تغسيلٍ وتكفين ونحوه، فهذه المئونة التي يحتاج لها لشراء الكفن تخرج من مال الميت، وتعتبر سابقة للميراث، وهذا حق من حقوق الميت في تركته.
أما لو كان الميت ليس عنده مال، فحينئذٍ ينظر إلى تجب عليه نفقته فيقوم بتكفينه، وإذا عجز فحينئذٍ يكون كفنه من بيت مال المسلمين، ولذلك يتعلق حقه بنفسه، ثم بمن يلي القيام عليه من حقوق النفقة، ثم بعامة المسلمين كما لو لم يكن له قريب وليس له مال.
هنا مسألة أيضاً: إذا تعذر الغسل وتعذر التكفين فإنه ينتقل من الغسل إلى التيمم، وتعتبر هذه الحالة تابعة للحالات التي ذكرناها مستثناة من الوجوب، وكذلك إذا لم يوجد الكفن إلا اليسير فإنه تغطى عورتاه إذا لم يجد ما يستر به إلا العورة، وإذا كان هناك فضل على العورة ستر بقية البدن على حسب الموجود من الفضل.
قوله: [والصلاة عليه].
الصلاة عليه أيضاً من الفروض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصلوا على أصحمة النجاشي رضي الله عنه وأرضاه لما توفي، وقال عليه الصلاة والسلام: (توفي اليوم عبدٌ صالح، ثم أمر الصحابة أن يخرجوا وصلى بهم)، فمن حق المسلم على إخوانه المسلمين أن يصلى عليه ويُدعى له بالمغفرة والرحمة، وعلى ذلك هديه صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك لما توفيت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد فدفنوها ليلاً ولم يخبروه، وكأنهم تقالوا شأنها انطلق عليه الصلاة والسلام حتى وقف على قبرها -وهذا من خصوصياته- فصلى عليها وقال: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) ووجه التخصيص قوله: (بصلاتي) كما في صحيح مسلم.
فهذا يؤكد أهمية الصلاة؛ ولذلك يقول العلماء: إن من فضائل الصلاة على الميت: أنها تذهب ظلمة القبر ووحشته، وذلك لقوله: (ينورها بصلاتي عليهم)، فكأنه يشير إلى العلة من الصلاة على الميت، ولذلك شُرعَ أن يدعى للميت بالرحمة والمغفرة، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من ميتٍ يقوم عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله فيشفعون فيه إلا شفعهم الله)، وهذا إذا كان الدعاء بإخلاص وصدق، ولذلك أمر عليه الصلاة والسلام بالإخلاص، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الصلاة وكيفيتها، لكن المراد التنبيه على هذه الأمور: (تغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه) فإنها فرض كفاية.
وعلى هذا: لو أن الميت لم يغسل ولم يكفن ولم يُصل عليه وقبر، فإنه يشرع نبشه ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه، لكن مشروعية النبش تتقيد بأن يؤمن تغيره، بمعنى: أن يغلب على ظننا أنه لا زال جلده قابلاً للغسل، أما لو مضت المدة التي يغلب على الظن إسراع الدود إليه وذهابه فحينئذٍ لا ينبش، وهذا طبعاً على قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم: أنه إذا قُصّر في حق الميت ودفن دون تغسيله، أو دون تكفينه، أو دون الصلاة عليه، قالوا: يشرع أن ينبش ويغسل ويكفن ويصلى عليه، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقيام بهذا الحق، وأمر من كفن أخاه أن يحسن إليه.
[ودفنه فرض كفاية].
وهذا أيضاً مما يتبع ما سبق من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فالأصل في الآدمي أن يقبر ويدفن: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:٣١].
فلذلك يقول العلماء: إن الأصل يدل على أن الآدمي يقبر ولا يبقى عرضة للسباع ولا للهوام ولا للطيور تنبشه وتأكل من لحمه كسائر البهائم، فهذا من التفضيل والتكريم الذي فضل الله به بني آدم، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:٢١] فمضت السنة على أنه يشرع قبر الميت الآدمي.
حتى ولو كان كافراً فإنه يوارى فلا يبقى في العراء؛ لأن بقاءه في العراء أذيةٌ للآدميين، وأبلغ في النتن، وأذهب لحرمته، فإن هناك حرمة عامة للآدمي؛ لأن الله لم يفرق بين آدمي كافر ومسلم في المواراة، ولذلك يقول العلماء: إن هذا التفضيل من جهة الآدميين، فيوارى الكافر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما أخبره علي أن أبا طالب قد مات، قال: (اذهب فواره)، ووارى عليه الصلاة والسلام قتلى بدر من المشركين في القليب، فدل على أن السنة قبر الميت، ولا يترك للسباع والهوام ونحوها كالطيور الجارحة تنهشه وتؤذيه.