للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مسألة اشتباه الطهور بالنجس]

قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتبه طهورٌ بنجس حَرُمَ استعمالهما].

قبل أن نبدأ بهذه المسألة الثانية ننبه على مسألةٍ أخرى: تقدم أن من شك في شيءٍ رجع إلى اليقين، لكن لو كان هذا الماء نجساً ثم شككت: هل زالت نجاسته بالشمس وتبخرت أم أنه لا زال نجساً، فاليقين هنا أنه نجس، والشك في كونه طاهراً، فنبقي اليقين من كونه نجساً، ونلغي الشك من طهارته، وهذا أصل عام.

فلو أصاب الثوب نجاسة، ثم جاءك حديث نفس وشككت: هل غسلت الثوب فهو طاهر، أو لم تغسله فهو نجس؟ فالأصل واليقين أنه نجس، فنقول: (اليقين) وهو كونه نجساً (لا يزال بالشك) وهو كونه طاهراً.

وهذا أصل عام يسري في كثيرٍ من الأمور، وكثير من المسائل وأحكام القضاء الموجودة في الفقه الإسلامي مفرعة على هذه القاعدة العظيمة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) وأصلها قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:١١١]؛ لأن الأصل في المتهم أنه بريء حتى يثبت ما يُدانُ به، إلى غير ذلك من المسائل التي لا تحصى كثرة، في مسألة الشك في طهارة الشيء ونجاسته.

فإذا شككت في شيءٍ رجعت إلى الأصل، فإذا كان عندك شيئان: أحدهما طاهر، والثاني: نجس، أو عندك ماءٌ طهور يجوز أن تتوضأ به، وماءٌ نجس، ولكن لا تستطيع أن تعرف الماء الطهور من الماء النجس ففي هذه الحالة هل نقول: يترك الاثنين ويتيمم، أو نقول: يتوضأ بأحدهما ويصلي؟ إن قلنا: يتوضأ بأحدهما ويصلي فإن اليقين أن ذمّته معلقةٌ بالصلاة، فإذا توضأ بأحدهما احتمل أنه توضأ بماءٍ نجس، وحينئذٍ لا يكون قد أبرأ ذمته التي هي معلقةٌ باليقين، إذ كيف يبرئها بأمرٍ مشكوك؟! ولذلك لا يصح ألبتة أن نقول له: يتخير واحداً منهما.

بعضهم يقول: يجتهد ويأخذ أقواهما وأقربهما من الطهور، ولكن ليست مسألتنا فيما فيه مدخل للاجتهاد إنما مسألتنا في سطلين أو إناءين لا تستطيع أن تعرف النجس من الطاهر منهما ألبتة، إذ الاشتباه عند العلماء يعني: وجود شيئين كلٌ منهما يشبه الآخر بحيث لا يمكن التمييز؛ لكن لو استطعت أن تميز بالرائحة أو باللون أو بالطعم فالقدرة على اليقين تمنع من الشك، ومسألتنا هي فيما إذا تعذر التمييز.

جاءك رجل وقال لك: أنت درست كتاب الطهارة، وعندي سطلا ماء، أحدهما طهور والثاني نجس، ولا أستطيع أن أعرف الطهور من النجس، وأريد أن أصلي، فبأيهما أتوضأ؟ إن قلت له: توضأ منهما فيحتمل أن يتوضأ بالنجس أولاً وبالطهور بعده، فيكون وضوءه بالطهور بعضه رافع لنجاسة البدن بالذي قبله، وإن كان توضأ بالطهور أولاً ثم بالنجس بعده فهذه مصيبة؛ لأنه سيتنجس ويصلي وهو متنجس، ولذلك لا يستقيم أن يقال له: توضأ بواحدٍ منهما أو بهما معاً، وإنما يقال له: اتركهما واعدل إلى التيمم.

فلو قال قائل: كيف يتيمم والله يقول: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:٤٣] وهذا قد وجد الماء؟! نقول: إن الشرع قال: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) أي: ماءً طهوراً تبرأ به الذمة، وهذا ماءٌ لا تبرأ به الذمة، فأصبح وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ولذلك يسمونه العجز الحكمي، حيث يكون الماء موجوداً ولكن لا تستطيع أن تستعمله، فيعتبر الماء كأنه مفقود حكماً.

وقال بعض العلماء: يخلطهما مع بعضهما، وعلى كل حال: فإن المذهب المعتبر أنه يترك كلا المائين ويتيمم.

وأصل هذا مسألة أصولية من أمثلتها: إذا اختلطت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة حرمتا، فلو كان عنده شاتان: إحداهما مذكاة ذكاة شرعية، والثانية: ذُكر عليها اسم غير الله، فهي فسق ورجس لا يجوز أكلها، وكلا الشاتين شكلهما واحد، ومكانهما واحد، فالتبس عليه فلم يستطع أن يعرف أيتهما المذكاة؟ فإننا نقول: حرمت كلا الشاتين؛ لأنه في مظنة أن يقع في المحرم، وهذه المسألة قررها غير واحد من أئمة الأصول ومنهم الغزالي في المستصفى، وكذلك الإمام ابن قدامة في الروضة.

كذلك هنا: إذا اختلط الماء الطهور بالنجس، نقول: اتركهما واعدل إلى التيمم.

(وإن اشتبه طهورٌ بنجس حرم استعمالهما ولم يتحر).

لأنه يؤدي إلى تنجيس بدنه واستباحة الصلاة على وجهٍ لا تبرأ به الذمة.

قال رحمه الله: [ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما].

قال بعض العلماء: يشترط في التيمم أن يريقهما حتى يصير غير واجد للماء، وصورة المسألة: إذا كنت في سفر وليس عندك إلا وعاء فيه ماء طهور، ووعاء فيه ماء نجس ولا تستطيع التمييز؛ أما لو وجدت غيرهما فإنك تتركهما وتتوضأ بالغير، لكن محل الإشكال هنا إذا لم يوجد ماء غير هذا الماء المشتبه فيه، فتترك الاثنين وتتيمم، وقال بعض العلماء: يخلطهما.

ومذهب الخلط يصح إذا كان أحدهما طهوراً يغالب الآخر وأمكن تمييزه، لكن هنا لا يمكن التمييز؛ لأنه إذا خلطهما مع بعضهما ربما أنه يتنجس أحدهما في الآخر؛ لأنه إذا وردت النجاسة على الطهور نجسته، وإذا ورد الطهور على النجاسة طهرها، وأنت لا تستطيع في هذا الحالة أن تفعل كلا الأمرين، لا تورد هذا على هذا، ولا هذا على هذا، فتلغي الاثنين كأنهما غير موجودين، ثم تتيمم، وهذا هو المذهب المعتبر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>