[التأويل في الحلف]
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب التأويل في الحلف.
ومعناه: أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره]: أي: في هذا الموضع أبين لك جملة من المسائل في الحلف بالطلاق، أو ذكر الطلاق المعلق على شيء يقصد منه الحالف شيئاً غير اللفظ المذكور، وهذا الباب بابٌ مهم من أبواب الطلاق، اعتنى به الأئمة رحمهم الله على اختلاف المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، حتى إن الظاهرية أشاروا إلى جملة من مسائله لأهميته وورود السنة بالإذن به.
وهو سعة ورحمة من الله عز وجل بعباده، فإن الإنسان قد يُظلم ويُطلب منه أن يطلق زوجته ويعلق طلاقها على أمرٍ ما، وهو مظلومٌ فيه، وربما أكره على أن يتكلم بالطلاق، أو يعلق طلاق زوجته على فعل شيء أو ترك شيء، فمن رحمة الله عز وجل أن جعل للعباد فرجاً ومخرجاً فيقول كلاماً وينوي شيئاً آخر، وحينئذٍ يكون للمطلِّق ظاهرٌ وباطن، فظاهره يدل على وقوع الطلاق إن اختل أمره، وباطنه أنه لا يقصد ذلك الظاهر الذي تلفظ به.
وقد تقدم بيان التأويل، وما هو مراد العلماء رحمهم الله به، وأن المقصود به: أن ينوي الإنسان شيئاً في قرارة قلبه ويتلفظ بكلامٍ يحتمل الذي نواه، وحينئذٍ يكون السامع قد فهم شيئاً والمتكلم يريد شيئاً آخر، وإذا كان التأويل في الطلاق، فمعنى ذلك أن السامع يظن أنه مطلق، والواقع أنه لا يقصد إيقاع الطلاق، بما قصده من ذلك التأويل.
وبينا أمثلة التأويل وصوره التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا من سعة اللغة العربية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا اللسان واسعاً، ومن هنا ساغ للمكلف أن يتلفظ بألفاظٍ يسمعها السامع ويظنها شيئاً ويريد المتكلم بها شيئاً آخر.
وبينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الرخصة ونبه الأمة عليها فقال في الحديث الصحيح: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) فبين عليه الصلاة والسلام أن المؤمن يستطيع أن يتخلص من الكذب -الذي هو من أقبح الأمور وأشنعها- بالتورية.
والتورية: أن يورِّي فيأتي بكلامٍ محتمِل فيقصد باطنه والسامع يظن ظاهره.
يقول رحمه الله: (باب التأويل في الحلف) أي باب التأويل في مسائل الطلاق خاصة في التعليق، أي سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالتأويل في الحلف في الطلاق.
وبين أن معناه أن يأتي بلفظٍ ولا يريد ظاهره، ومعنى ذلك أنه يشترط في اللفظ أن يكون محتملاً، يقول: جواري، ومراده السفن، لأنها تجري، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:٣٢] فيقول: جواري عتيقات، أو يقول: نسائي طوالق مني، ومراده بالنساء محارمه الذين هن لسن بزوجاته، ففي هذا مندوحة للإنسان إذا أكره وألجئ إلى الطلاق، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده.
قال المصنف رحمه الله: [فإذا حلف وتأول يمينه نفعه إلا أن يكون ظالماً] أي حلف على شيءٍ وكان حلفه بلفظٍ محتمل فقال: امرأتي طالق مالك عندي شيءٌ، أي إن كان عندي شيء فامرأتي طالق، فهذا ظاهر اللفظ، ومراده بالمال مالٌ معين، وكان الذي استحلفه بهذا المال ظالماً جائراً عليه يدعي أن له عنده حقوقاً والواقع أنه ليس له عنده حقوقاً، فألجأه أن يحلف بالطلاق، مثلاً: شخص قوي وعنده قوة قال له: أعطني العشرة الآلاف التي عندك قال له: أظن أنني سددتها لك، أعطيتها لك، قال: إذاً احلف بأن نساءك طوالق أو امرأتك طالق إن كنت لم تدفع لي هذه العشرة الآلاف أو إن كانت هذه العشرة الآلاف عندك، فحلف بطلاق زوجته أنه ما له عنده شيء، وقصد مالاً غير النقد التي هي العشرة الآلاف، أو قصد أنه ماله عنده شيء من ناحية الحق الثابت وهذا من حقه، أو قصد شيئاً آخر غير الذي فهمه سواء كان في عين المال، أو كان في صفة المال وحاله، فكل ذلك ينفعه إلا أن يكون ظالماً.