[حكم إمامة العاجز عن الركوع أو السجود]
قال رحمه الله: [ولا عاجز عن ركوعٍ أو سجود أو قعود أو قيام].
هذه كلها أركان للصلاة، فالقيام مع القدرة والركوع والسجود والجلوس كلها من أركان الصلاة، فقالوا: إذا كان الإمام عاجزاً عن القيام أو الجلوس أو الركوع أو السجود فإنه لا يصلي بغيره، والسبب في ذلك أنه معذورٌ في نفسه وغيره غير معذور، فعذره لا يتعدى إلى الغير، ومن ثم قالوا: لا يؤم العاجز عن القيام والعاجز عن الركوع والسجود غيره، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالساً في موضعين: الموضع الأول: حينما وقع من على فرسه وجرح شقه الأيمن، قال أنس -كما في صحيح مسلم-: (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على فرس فجحش شقه الأيمن -أي: جرح-، فصلى قاعداً فصلى وراءه أصحابه قياماً، فلما سلم قال: لقد كدتم أ، تفعلوا فعل الأعاجم.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا.
وإذا رفع فارفعوا، إلى أن قال: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)، فهذا يدل على أنهم يقتدون بالإمام إذا كان جالساً، وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان معذوراً وهو الإمام الراتب جاز أن يصلي بالناس قاعداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمامٌ راتب.
والذين يقولون بالمنع من إمامة من يعجز عن الركوع والسجود والقيام السبب عندهم أن العجز مختصٌ به والإمام ضامن، وبناءً على ذلك لا يكون الناقص ضامن للكامل، وعلى هذا لا يحمل ولا يضمن للناس صلاةً فلا يصح أن يتقدم بهم، وهناك حديث: (لا يؤمن أحدٌ بعدي جالساً)، وهو حديث ضعيف.
قال رحمه الله: [إلا إمام الحي المرجو زوال علته، ويصلون وراءه ندباً].
هذه المسألة فيها خلاف، فقال بعض العلماء: لا يؤم الإمام الجالس أو القاعد مطلقاً، سواءٌ أكان إمام حيّ أم غيره.
ويحتجون بالحديث الذي ذكرناه، ومنهم من قال: يؤم الإمام ولو كان جالساً إذا كان إماماً راتباً أو إمام الحي فإنه يؤم جالساً ويصلي الناس وراءه، واختلفوا في المأمومين على قولين، فقيل: يصلون قياماً.
وقيل: يصلون جلوساً مثله.
فالذين قالوا: يؤم ويصلي الناس وراءه جلوساً يحتجون بحديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط من على الفرس وصلى جالساً عتب على الصحابة أن صلوا وراءه قياماً، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا يدل على أن الإمام لا يصلى وراءه إلا بالصفة التي هو عليها، فإن صلى معذوراً جالساً صلينا وراءه جلوساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين).
القول الثاني يقول: لا يصلون وراءه جلوساً، وإنما يصلون وراءه قياماً؛ لأن الإمام معذورٌ في حق نفسه ومن وراءه غير معذور، فهو مخاطبٌ بأن يقوم كما أمره الله، فيبقى العذر مخصوصاً بصاحبه ويبقى غيره على القيام، فقيل لهم: كيف تجيبون عن حديث أنس؟ قالوا: حديث أنس كان في أول الأمر، ثم نسخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرضه.
فإنه لما مرض مرضَ الموت وتقدم أبو بكر ليصلي بالناس جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ثم قعد فصلى، فصلى أبو بكر بصلاته يسمع الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً والصحابة من ورائه قياماً، فقالوا: هذا وقع في آخر إمامةٍ أَمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، ويؤكدون هذا بأن النصوص قوية في الدلالة على مخاطبة المكلف بالقيام، فنبقي هذه النصوص التي أوجبت القادر على القيام على دلالتها، ثم يستثنى الإمام لمكان العذر، وتكون صورة الصلاة كصورة إمامته عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة التي كانت آخر حياته، بل كانت آخر إمامةٍ وقعت منه عليه الصلاة والسلام للصحابة.
وجمع الإمام أحمد رحمةُ الله عليه بين هذه النصوص فقال: إذا كان إمام الحي المرجو زوال علته فإنهم يصلون وراءه جلوساً -على الصفة التي ذكرناها، ويكون ذلك ندباً كما ذكر العلماء رحمةُ الله عليهم، وهذا بأمره عليه الصلاة والسلام- وأما إذا كان طرأ عليه العذر أثناء الصلاة فإنهم يصلون وراءه قياماً.
فجمع بين الحديثين بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعين) عام سواءٌ أبتدأ الصلاة جالساً أم طرأ عليه الجلوس أثناءه، وأما حديث مرض الموت فإن الجلوس من الإمام طرأ ولم يكن في أول الصلاة؛ لأن الذي استفتح الصلاة إمامٌ قائم وهو أبو بكر، والجلوس طرأ بعد هذه الإمامة، وبناءً على ذلك يقول: كأنه وجب عليهم أن يقوموا في مرض الموت، وبقي حديث أنس على العموم.
فكأنه يرى أنه لا يصلي المأمومون وراء الإمام قياماً إلا في حالةٍ واحدة، وهي أن يستفتح الصلاة بهم وهو صحيح ثم يشتد عليه مرضه فيجلس، فإذا استفتح بهم الصلاة وهو صحيح واشتد عليه المرض وجلس فيصلي المأمون وراءه قياماً، وأما في غيرها، كأن يصلي من بداية الصلاة جالساً فيصلي الناس وراءه جلوساً.
فهذا في الحقيقة فيه الجمع بين النصوص وهو أقوى الأقوال -إن شاء الله- وأقربها إلى الصواب.
وقوله: [ويصلون وراءه جلوساً ندبا].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، فصُرِف الأمر من الوجوب إلى الندب لوجود حديث مرض الموت؛ لأنه معارض لحديث الأمر، فحملوا الأمر على أنه محمول على الندب، وأكدوا هذا بأن الصحابة لما صلوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم قياماً لم يؤثمهم.
وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.
قال رحمه الله: [وإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياماً وجوباً].
هذا على ظاهر حديث مرض الموت، فإن الصحابة بقوا على حالتهم وهم قائمون، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وبناءً على ذلك نقول: إذا دخلت المسجد والإمام الراتب يريد أن يصلي جالساً واستفتح الصلاة جالساً فصل وراءه جالساً، ودليلك حديث أنس: (وإذا صلى جالساً فصلوا وراءه جلوساً أجمعين)، وأما إذا دخلت والإمام يستفتح الصلاة وليست به علة، ثم طرأ عليه المرض، أو طرأ عليه العذر فاحتاج للجلوس فإنك تبقى على القيام حتى تتم الصلاة لحديث مرض الموت.