[تعارض الأصل والظاهر]
السؤال
عند الاختلاف متى يُحكم بالظاهر ويُترك الأصل أثابكم الله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا سؤال جيد، وفي الحقيقة مسألة تعارض الأصل والظاهر مسألة دقيقة؛ بل تعتبر من أدق مسائل القواعد، وهذا من توفيق الله للسائل، ولا شك أن السائل أحسبه من طلاب العلم، فالسؤال قوي ومركَّز.
ومسألة الظاهر ومسألة الأصل نقول فيها: إن الظاهر دائماً يستدل بدلائل وعلامات وصفات معينة، فيُحكَم بكونه ظاهراً، فمثلاً: في قضية النجاسات، إذا دخل الشخص إلى دورة المياه، فإنه يجد الماء على البلاط، فإن كان في المكان المنفصل عن النجاسات، فالظاهر أنه طاهر، وليس هنا قضية أصل وعدمه؛ لأنه توجد صفات مؤثرة ومواضع تقوي شيئاً إما الطهارة وإما النجاسة، فالظاهر يقوم دائماً على الصفات، فإذا دخلنا إلى دورات المياه، فبالنسبة لأماكن الوضوء إذا كانت مفصولة وجرى الماء فيها، فإننا نحكم بكونه طاهراً؛ لأنه ليس ثم دليل على نجاسته.
ولكن إن كان الماء في داخل دورات المياه، أي: في مكان قضاء الحاجة، فإن هذه الأماكن الظاهر منها أنها نجسة، فلو طار على الإنسان رذاذ، فإن كان من المكان المحكوم بظاهر الطهارة فيه فهو طاهر، ولا يؤثر، فلو وطئ بقدمه ثم وجد على ثوبه أثر الماء الذي يكون بعد المشي أو المسير، فإنه يحكم بكونه طاهراً؛ لأن الظاهر طهارته، ولو وطئ في موضع النجاسة، أو مثلاً سقط حجر في مكان النجاسة فتطاير الرذاذ، فإن الظاهر إذا أصاب الثوب أنه نجس.
إذاً: عندنا في الظاهر الدلالة والعلامة التي يُستند إليها في ظاهر الحال، وليست في الأصل، فإن الأصل له جانب آخر، ويُحكم بالظاهر في مسائل العبادات والمعاملات أيضاً، فالعبادات كما ذكرنا.
والظاهر في المعاملات: مثاله: لو أن شخصين اختصما في سيارة، فأحدهم يقول: هي سيارتي، والثاني يقول: بل هي سيارتي، وأحدهما في مقعد القائد والثاني بجواره، فلمن تكون السيارة؟ تكون للذي في مقعد القائد؛ لأن الظاهر يشهد بأنها سيارته، وظاهر الحال يدل على صدق دعواه وكذب دعوى من خالفه، وكذلك أيضاً لو حُكِم بالظاهر في البيت، كرجلين يختصمان في بيت، أحدهما ساكنٌ فيه، والثاني خارج عنه، فنقول: الظاهر أنه بيت من هو ساكن فيه، حتى يقوم الدليل على اليد الخارجة هذه كلها تعتبر من مسائل الظاهر.
أما مسائل الأصل: فإنها تعرف بالمعاني، فالظاهر -كما ذكرنا- يعرف بالمحسوسات والصفات، ولكن الأصل يعرف بالمعاني، فمثلاً: إذا جئت إلى ماء، وشككت هل هو نجس أو طاهر؟ فتقول: الأصل أنه طاهر حتى يدل الدليل على نجاسته، ولو مشيت في طريق -مثلاً- فوجدت ماءً على الطريق، ثم أصابك منه شيء، فإننا نقول: الأصل طهارته حتى تتحقق أنه نجس؛ لأن الأصل طهارة الأشياء حتى يدل الدليل على نجاستها، ولو كنت مثلاً في البيت، وهناك أطفال وتخشى أن تخرج منهم نجاسة فتنجس فراش البيت، وأردت أن تصلي، فشككت هل أحد منهم دخل الغرفة وهو متنجس فنجسها أو لم يدخل؟ فتقول: اليقين أنها طاهرة، حتى تتحقق أنه دخل ونجسها، ليس دخل فقط، بل دخل وفيه نجاسة وتطايرت النجاسة منه، فبعد التحقق فعليك أن تعدل عن الأصل إلى أصلٍ آخر.
إذاً: مسألة الأصل غالباً تتعلق بالمعاني والتقديرات الموجودة في الأشياء، ولكن الظاهر يتعلق بالصفات.
وقد يتعارض الأصل والظاهر في مسائل: فبعض الأحيان يقدَّم الأصل على الظاهر، وبعض الأحيان يقدَّم الظاهر على الأصل، وهذه المسألة الكلام فيها طويل، وتحتاج إلى شيء من التحرير، ومن الصعوبة بمكان أن نتكلم عليها في هذه العجالة، ففي بعض الأحيان يُرجَّح الأصل، وفي بعض الأحيان يرجح الظاهر، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما حمل أمامة بنت أبي العاص، وهو يصلي بالناس، فإنه قدّم الأصل، وإن كان ظاهر أحوال الصبيان أنهم لا يسلمون من وجود أشياء في ثيابهم، ولذلك قدم عليه الصلاة والسلام الأصل وهي الطهارة، ونجد كذلك في بعض السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قدم الأصل وألغى الظاهر، مثال ذلك: السباع ترد على المياه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث)، فقدّم الأصل على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال السباع في البراري أنها تأكل الجيفة والنتن وهي نجسة، والسباع في البوادي الظاهر أنها ترد المستنقعات وتشرب منها، فلما سئل عليه السلام عن الماء وما ينوبه من السباع؟ قال: (إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث)، فأبقى الأصل وهو طهوريته.
وكذلك عندما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن بئر بُضاعة وما يُلقى فيه من الحيَّض والنتن، فإن الظاهر أنه لما ألقي فيه الحيض -أي: دم الحيض- وهو نجس، والنتن والقذر، والقذِر يزيل الطهورية إذا غيّر لوناً أو طعماً أو ريحاً، فرجع إلى الأصل، فهنا الظاهر أنه نجس؛ لأن الذي يظهر أنه إذا ألقيت النجاسة فإنها تؤثر، وهذا هو المعروف من الحال، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء)، فرد إلى الأصل.
فهذه المسألة في الحقيقة تحتاج إلى شيء من التفصيل والتوضيح، وفي بعض الأحيان تأتي النصوص مقوية لترجيح أحد القولين، وفي بعض الأحيان يُترك الترجيح لأفراد المسائل، ففي في بعض الأحيان الصحابة رضوان الله عليهم يقدِّمون الأصل ويلغون الظاهر، كما في حديث الأعرابي لما جاء إلى المسجد ورفع ثوبه ليبول، والأصل أنه لا يجوز البول في المسجد، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر، بادروا بالإنكار، والظاهر أنه إذا سكت فإن هذا نوع من الإقرار، فلم يلتفتوا إلى سكوته، وأنكروا عليه حتى أسكتهم، فقال: (لا تزرموه)، فكان الظاهر على حقيقته من أنه لا يريد الإنكار عليه، ففي بعض الأحيان يقدَّم الظاهر، وبعض الأحيان يقدَّم الأصل، وهي مسألة في الحقيقة تحتاج إلى شيء من التحرير.
وكثيراً ما يكون الظاهر داخلاً على الأصل فأشبه الاستثناء، وإذا كان داخلاً على الأصل صار كالمخصِّص لذلك الأصل، وكأنه مستثنى، وتعطيه حكم الأصل الطارئ، فكأنه بمثابة الأصلين: الأصل القديم والأصل الطارئ، وحينئذٍ نقدم الأصل الطارئ على الأصل القديم، ففي بعض المسائل يقدم الأصل الطارئ على القديم، وفي بعض المسائل يقدم الأصل القديم على الأصل الطارئ فتصحب حكم الأصل.
فمثلاً: إذا رفعت رأسك من الركوع هل تقبض أو تسدل؟ تقول: الأصل الطارئ هو القبض؛ لأنه لما كبر عليه الصلاة والسلام قبض، والأصل القديم أنه في الصلاة لا أتكلَّف الحركة فأقبض، فيتعارض الأصل القديم مع الأصل الطارئ.
الشاهد: أن هذه المسائل تحتاج إلى دراسة، وإعطاء قاعدة فيها أمر من الصعوبة بمكان، إلا أن بعض العلماء ذكروا هذا، فقد ذكره الزركشي في المنثور في القواعد، فيرجع إليه في مسألة تعارض الأصل والظاهر، كذلك أيضاً أشار إليها السيوطي في الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه، وكذلك ابن لجين رحمه الله في الأشباه والنظائر، فقد ذكر مسألة تعارض الأصل والظاهر، وهي مسألة جيدة وفيها نصوص، ومن تأمل شروحات الأحاديث المطوَّلة كشرح الحافظ ابن حجر، فسيجد أنه بعض الأحيان يقول: فيه دليل على تقديم الأصل على الظاهر، وبعض الأحيان يقول: وفيه دليل على تقديم الظاهر على الأصل.
ولو تُرِكت كل مسألة كي تُبحث على حدة، فإن ذلك يكون أمعن وأدق في بيان وجه الصواب، والله تعالى أعلم.