[تقديم المباشرة على السببية في المكلف العاقل]
قال رحمه الله: [ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه].
(ومن أمر شخصاً مكلفاً) المكلف: البالغ العاقل (أن ينزل بئراً) أن ينزل بئراً يحضر له شيئاً، أو يحفر بئراً، أو -نسأل الله العافية- مثلما يحدث لبعضهم بأن يعجِّز غيره فيقول له مثلاً إذا كان سباحاً: لا تستطيع أن تبلغ قعر البئر، فيقول له: بلى أستطيع، فينزل فيموت، فحينئذٍ اجتمعت السببية والمباشرة، السببية: حينما قال له: انزل إلى البئر، والمباشرة حينما باشر الشخص نفسه النزول، فأصبحت الجريمة فيها سببية من جهة الأمر بالنزول، فيفصل في هذا: فإذا كان الآمر له قوة وأكره الشخص على النزول فنزل وتلف؛ ضمنه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان له قهر وأكرهه على النزول فيكون في حكم من غصبه على فعل، وهذا الفعل أدى إلى الضرر، فيضمن من غصب وأكره وقهر.
الصورة الثانية: أن يقول له بمحض الاختيار: تحفر لي هذا البئر؟ أو تصعد هذه الشجرة وتجني لي منها المحصول؟ فإذا كان حفر البئر محفوفاً بالخطر؛ وهو انهيار البئر أو انهيار جزء منه، فحينئذٍ لو حفر البئر فانهال عليه فمات لم يضمنه الآمر؛ لأن الأمر سببية والنزول مباشرة، والمكلف العاقل كان ينبغي عليه ألا يخاطر بنفسه، فلما خاطر بنفسه تحمل المسئولية عن نفسه وسقط حكم السببية، وتعلمون كما تقدم معنا في القاعدة (أن المباشرة تسقط حكم السببية) فهذا قد باشر قتل نفسه بتعاطي الأسباب وإن كان الآمر لا سلطان له عليه.
لكن هناك مسألة التغرير؛ ومسألة التغرير صورة مستثناة، وهي أن يقول له: مثلاً في داخل هذا البئر ذهب، أو: في داخل هذا البئر مال إن أحضرته أعطيتك نصفه، أو يقول له مثلاً: هذا كتابي قد سقط في هذه الحفرة، انزل فائتني به، ويكون في داخل الحفرة ثعبان، أو سبع مفترس، ولا يخبره بذلك، فيغرره باقتحام المباشرة الموجبة للهلاك والتلف؛ لأن الغالب أنه إذا خلا مع السبع افترسه وأهلكه، وإذا اختلى مع الحية أهلكته، فإذا غرر به على هذا الوجه لم يسقط الضمان.
وإن قصد قتله وغلب على الظن أنه يقتل ويموت بهذا، أو علم أن البئر له مورد ماء ينهار بعد دقائق أو بعد لحظات، وأمره بالنزول من أجل أن ينهار عليه قاصداً قتله، فهذا قتل عمد، وهو من باب التغرير، والتغرير له تأثر، وفي بعض الأحيان ينزل التغرير منزلة السببية، وبعض الأحيان ينزل منزلة المباشرة، وبعضهم يعتبره من القتل بالسببية.
على كل حال: من أمر مكلفاً أن يحفر بئراً، فالمكلف يتحمل مسئولية نفسه، وهكذا لو قال له: أريدك أن تطلي لي واجهة البيت، فأحضر السلالم وبدأ بطلائها فسقط، فإنه في هذه الحالة لا يضمن، سواء هلك أو ترتب على سقوطه ضرر؛ لأن هذه الأفعال المكلف العاقل لا يخاطر بنفسه بإتيانها، وهو مسئول عن مباشرتها، فإذا اختار أن يفعلها بطوعه دون قهر ودون إكراه على الفعل فإنه لا يضمن الآمر والطالب شيئاً.
والذي يختاره الأئمة رحمهم الله أنه لا ضمان على الآمر؛ لأن المكلف متحمل لمسئولية نفسه.
ومن هنا: المستأجرون في الأعمال والحرف لا ضمان على أصحاب الأعمال من حيث الأصل؛ لأن العمال مستأجرون في الأصل مكلفون عاقلون، لكن لو أنه أكرههم وقصرهم على فعل هذه الأفعال بغير اتفاق سابق، يعني: لم يكن اتفاقه مع العامل أنه يطلي له واجهة منزله، ولم يكن اتفاقه مع العامل أنه يشتغل هذه الأعمال الخطرة، فقال له: لابد أن تشتغل، وأكرهه على فعلها، حينئذٍ يضمن، وبناء على ذلك يفصل فيها، ومن حيث الأصل ما دام أن العامل عاقل ومكلف فإنه يتحمل مسئولية نفسه في القيام بهذه الأعمال الخطرة، وما ترتب عليها من أضرار، وهذا من عدل الشريعة، كما أن العامل يأخذ المنفعة والمصلحة كذلك يتحمل الضرر (فالغنم بالغرم) فهو يتحمل مسئولية نفسه إن حصل له ضرر، وإذا لم يحصل له ضرر أخذ النتيجة والمنفعة.
قال: [ولو أن الآمر سلطان].
(ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، وليست القضية خاصة بالسلطان، وإنما المراد وجود الإكراه، فبعضهم يقول: إذا كان مثله لا يرد طلبه فإنه بسيف الحياء والقهر، لكن المصنف رحمه الله اختار القول الذي يسقط الضمان على السلطان؛ لأن هذا مكلف، وكان بالإمكان أن يقول له: لا أستطيع أو لا أخاطر بنفسي، لكن قالوا: الخوف والرعب يمنعه من ذلك فيكون شبه مكره على هذا.
من حيث الأصل مذهب المصنف قوي، لأنه كان المفروض أن هذا المكلف يقول: لا أفعل هذا الشيء، ويمتنع من فعله؛ لأنه مأمور بحفظ نفسه، وغاية ما سيفعله به السلطان أن يؤذيه أو يضره، وإذا قتله السلطان إذا امتنع فأن يقتل شهيداً خيراً من أن يتعاطى أسباب قتل نفسه، هذا وجهه، ولذلك قول المصنف من حيث الأصل صحيح قوي.
ومن حيث النظر وهو الاحتكام إلى العادة الصحيحة؛ لأنه جرت العادة أن مثل هذا يغلبه الخوف ويكون فيه شبه بالمكره، لكن قول المصنف من حيث الأصل قوي جداً، وعلى هذا سنخرج بخلاصة: أن السلطان أو غيره لا تأثير له ما لم يقهر قهراً فعلياً، بحيث يضغط عليه وينزله قهراً وبدون طواعية، فإذا فعل ذلك فإنه حينئذٍ يلزمه الضمان.
قال: [كما لو استأجره سلطان أو غيره].
كذلك نفس المسألة؛ لأن الإشكال هو في إثبات صورة تكون في حكم الإكراه، أما لو أكرهه قوة وقسراً فلا خلاف أنه يضمنه، فإذا أكرهه وقسره على النزول إلى البئر، وانهار به البئر، أو قال له: لابد وأن تأتيني بما في قعر هذه البئر، وهو سباح، وقعر البئر بعيد، فنزل فهلك، فإنه حينئذٍ يضمنه إذا قهره، أما إذا لم يحصل قهر فالأشبه ما اختاره المصنف أنه لا ضمان عليه.