وهل يشرع لآل الميت أن يجلسوا في بيتهم يتقبلون العزاء؟ كان السلف يمنعون ذلك، وكان الإمام مالك رحمة الله عليه يشدد في ذلك كثيراً ويمنع منه، وعلى ذلك درج فعل السلف، لكن أفتى المتأخرون من العلماء والفقهاء أنه لا حرج في هذه العصور المتأخرة.
والسبب في ذلك: أن العصور المتقدمة كان الناس قليلين، ويمكنك أن ترى آل الميت في المسجد، وأن تراهم في الطريق وأن تراهم في السابلة وتعزي، وكان الأمر رِفقاً، بل قل أن يموت ميت إلا وعلم أهل القرية كلهم وشهدوا دفنه، فكان العزاء يسيراً، لكن في هذه الأزمنة اتسع العمران، وصعُب عليك أن تذهب لكل قريب في بيته، ويحصل بذلك من المشقة ما الله به عليم، وفيه عناء؛ لذلك لو اجتمعوا في بيت قريبٍ منهم كان أرفق بالناس وأرفق بهم، وأدعى لحصول المقصود من تعزية الجميع والجبر بخواطر الجميع؛ ولذلك أفتوا بأنه لا حرج -في هذه الحالة- من جلوسهم، ولا يعتبر هذا من النياحة، بل إنه مشروع لوجود الحاجة له.
فإذا وجدت الحاجة والضرورة جاز استثناؤها من الأصل، وقد يكون الشيء محظوراً ويستثنى لوجود الضرورة والحاجة، فلو أن امرأةً أصابها ألم واضطرت للكشف عن ساقها أو عن ساعدها أو عن صدرها للطبيب، فإنه ليس عندنا دليل يدل على مشروعية كشفها عن ساقها أو ساعدها للطبيب، لكن لما وجدت الضرورة والحاجة أُذِنَ لها في ذلك، فهو ليس بنصٍ عيني على المسألة، لكنه أصلٌ شرعي يُطرد في هذه المسائل.
فإن وجدت ضرورة وحرج للناس فإن الله تعالى يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:٧٨] فلو قلنا للناس: عزوا كل إنسان في بيته، لتفرق الناس في ثلاثين بيتاً، ولربما حدث في المدن الكبيرة من ذلك فيه حرج ومشقة، ولربما لا تستطيع أن تستغرق عزاءهم خلال الثلاثة الأيام، وقد يكون بعضهم أحوج ما يكون أن تأتيه في اليوم الأول عند الصدمة الأولى، ولذلك لا شك أنه من الحرج أن نقول: إنهم لا يجلسون في مكانٍ معين، فلذلك رخص بعض المتأخرين في جواز جلوس آل الميت عند قريب منهم ويعزون؛ دفعاً للضرر عن الناس وعنهم.
لكن بشرط: ألا يشتمل هذا الجلوس على محظور مما ذكرناه من المباهاة، أو وضع علامات معينة على البيت أشبه ما تكون بعلامات الزواج، أو نحو ذلك من الأمور المحدثة التي لا أصل لها، وإنما يكون الجلوس على السنن، ويدخل إلى آل الميت يسلم عليهم ويجبر بخاطرهم، ثم ينصرف المعزي.
ولا يجلس أكثر من الحاجة، إنما يشرع له أن يدخل ويعزي، فإن كانوا بحاجة إلى كلمةٍ منه تسلي قلوبهم سلاهم، كالعالم وطالب العلم والحبيب والصديق المحب، الذي تعظم منه الكلمة ويكون لها أثر، ويكون لها قبول عند من يعزيه، فهذا لا حرج أن يجلس ليجبر بخاطر آل الميت، ولكن يعجل بالانصراف.
وكان العلماء والأجلاء لا يجلسون في هذه المجالس ولا يطيلون المكث فيها إلا من حاجة، مثال الحاجة: كأن يحتاج آل الميت أن يستفتوك عن بعض المسائل، فتطيل اللبث عندهم لبيان السنة والهدي، ولكي تنصحهم فيما يجوز لهم وما لا يجوز، وأن تبين لهم بعض الحقوق التي يحتاجونها بعد وفاة الميت، وتوصي كبيرهم بصغيرهم، وتوصيهم بالأيتام وبالوالدين ونحو ذلك من الضعفاء، كل هذا لا حرج فيه، ويرخص فيه بقدر الحاجة والضرورة كما ذكرنا.