يقول المصنف رحمه الله:(ويجوز) أي: يُباح للمسلم إذا وصّى بوصية أن يرجع عنها، وذلك لأن الإجماع منعقد على أن الوصية ليست بعقدٍ لازم في أول الحال، وقد تقدم معنا أن العقود منها ما هو لازم، ومنها ما هو جائز، والذي يُوصف باللزوم إما أن يكون لازماً للطرفين، إما أن يكون لازماً لأحد الطرفين، وقد بيّنا هذا وفصلناه في مقدمات البيوع، وعند الكلام على باب الخيار.
والوصية في الأصل أنها عقدٌ جائز في حق أحد الطرفين، لازم في حق الآخر؛ لأن الموصي من حقه أن يُغيِّر ويقدم ويؤخر ويبدل في وصيته ما لم يمت، وهذا حق من حقوقه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو ضُيِّق على الإنسان في وصيته لما أمكنه أن يتدارك كثيراً من المصالح، ولما أمكنه أن يدرأ عن نفسه كثيراً من المفاسد، ولو أن الشريعة ضيَّقت على الموصي أن يرجع عن وصيته لتحاشى الناس الوصية؛ لأنهم يعلمون أن أي وصية يقومون بها سيُلزمون بها.
وحينئذٍ كان من رحمة الله تبارك وتعالى ولطفه بعباده كما قال العلماء: أن يسَّر على المسلم في رجوعه في وصيته، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، على حسب اختلاف الأوقات والأزمنة والأحوال، فلربما كان في وقت يرى من المصلحة أن يوصي لغير الوارث، فيوصي بثلث ماله أو بربعه إلى قرابة له لا يرثون، ثم يشاء الله أن تكثر ذريته وتتغير الأحوال، وحينئذٍ تكون ذريته أحوج ما تكون إلى هذا المال، فيكون من المصلحة أن يلغي الوصية بالثلث، وأن يلغي الوصية بالربع، وأن يلغي الوصية لغير الوارث، وأن يُقدِّم ورثته الذين هم أحوج، وهذا لا شك أن فيه رحمة من الله وتوسعة على العباد.
وممن أشار إلى هذا القرافي في كتابه (الذخيرة)، فقد بيّن أن الله تعالى تدارك عباده برحمته حينما وسَّع عليهم في الرجوع عن الوصية، فلو لم يملك الإنسان الرجوع عن الوصية لصارت الوصية محل ضرر على الناس من جهة، ولتحاشي الناس الوصية من جهة أخرى.
قال:(يجوز) أي: يباح، فمن أوصى وصية ورأى من المصلحة أن يلغيها ويكتب غيرها، أو يُلغي بعضها ويثبت بعضها؛ فالأمر عائد إليه، وعلى هذا شبه إجماع بين العلماء رحمهم الله، وفيه أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام البيهقي في السنن، أثبت مشروعية الرجوع عن الوصية.