[النوع الثالث: شركة الوجوه]
قال رحمه الله: [فصلٌ: الثالث: شركة الوجوه]: النوع الثالث من أنواع الشركات: شركة الوجوه.
والوجه والجاه معناهما واحد، فإن الإنسان إذا كان له مكانة عند الناس فإن تلك المكانة جاهٌ له من الله عزَّ وجلَّ وضعه له بين عباده، فالشخص يكون له الجاه بما جبله الله عزَّ وجلَّ عليه من الأخلاق الفاضلة، كالأمانة، والصدق والنصيحة ونحو ذلك من الأمور التي يضع الله بها القبول للعبد، فمن كان صادق اللسان، معروفاً بالأمانة والنزاهة فإن الله عزَّ وجلَّ يضع له هذا الجاه والقبول بين العباد.
ولذلك يقول العلماء: إن هذه الشركة تقوم على الجاه وعلى الوجه، وتسمى هذه الشركة بـ (شركة الذمم)، والسبب في هذا أنها تقوم على الدَّين، والدَّين متعلق بذمة الشريكين، والذمة وصف اعتباري في الشخص قابل للالتزام والإلزام، فالشريكان يتفقان فيما بينهما على أن يأخذا من الناس سيولةً وأموالاً، ويعملا بهذه الأموال بمعرفتهما وخبرتهما، فما كان من المال المأخوذ فهو بينهما على ما اتفقا، وما بيع وحصل من الربح فهو بينهما على ما اتفقا.
وبناءً على ذلك: فهذه الشركة يمكن تصنيفها في الصنف الذي ذكرناه، أن يكون المال من غير الشريكين، والعمل من الشريكين؛ لأن الشركة تنقسم إلى أنواع: النوع الأول: أن يكون المال والعمل من الشريكين، وهذا يشمل شركة العنان وشركة المفاوضة، فالمال من الطرفين، والعمل من الطرفين.
النوع الثاني: أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، وهذا مثل شركة المضاربة والقراض.
النوع الثالث: شركة الجاه، يكون المال من غيرهما والعمل منهما.
فهما ليس عندهما سيولة ونقد، فيتفقان على ذهابهما للتجار، فهذا يأخذ خمسين ألفاً، وهذا يأخذ خمسين ألفاً، فأصبحت مائة ألف، أو يأخذان بضاعة بخمسين ألفاً بينهما مناصفةً، ثم هذه البضاعة يصرِّف هذا ما يستطيع، ويصرِّف هذا ما يستطيع، فيردان الخمسين ألفاً، ثم يقسمان الربح الناتج بعد ذلك، وهذا النوع من الشركة قد يتفق الطرفان فيه على نسبة متساوية، فتقول لشخص: أتفق أنا وأنت على أن نشتري العروض أو نأخذ العروض بجاهينا مناصفةً، فإذا قلتَ له: بجاهينا مناصفةً، معناه: أن أي شيء يشتريه تضمن نصف قيمته ويضمن هو النصف الآخر، وأي شيء تشتريه أنت فإنك تأخذ نصفه ويأخذ هو نصفه.
مثال ذلك: لو اتفقتما على شركة الوجوه، وقلتَ له: أي شيء نشتريه فإنه بيننا مناصفةً، أو الربح بيننا مناصفة، فذهب واشترى سيارةًً، وهذه السيارة قيمتها مائة ألف، على أنها شركة فخمسون منها واجبة عليك تضمنها في ذمتك، وخمسون ألفاً واجبة عليه يضمنها في ذمته، فإذا اشترى هو بجاهه، وإذا اشتريت أنت بجاهك، فتتفقان وتقول له: أنا أتحمل نصف ما تشتري ونصف ما تأخذ والربح أيضاً بيننا مناصفةً، فحينئذٍ لا إشكال، وفي بعض الأحيان تقول له: أنا أتحمل ثلاثة أرباع، وأنت تتحمل الربع، فكل شيء تشتريه أو أشتريه ثلاثة أرباع قيمته ألتزم بها وربع قيمته تلتزم به أنت، والربح بيننا ثلاثة أرباعه لي وربعه لك، أو أي شيء تشتريه فأتحمل قيمة الثلثين، وتتحمل أنت قيمة الثلث، فلو أنك قلت له: أي شيء تشتريه بيني وبينك أثلاثاً ألتزم أنا بثلثيه، وتلتزم بثلثه، والربح بيننا أثلاثاً على حساب رأس المال، فذهب واشترى عوداً بثلاثمائة ألف ريال، فإنك تضمن مائتي ألف، ويضمن هو مائة ألف، فلما اشترى العود وتاجر به انكسرتما في التجارة، فأصبحت قيمة العود مائة وخمسين ألفاً، أي: بعتم العود بمائة وخمسين، فحينئذٍ بقي الدين عليكما الاثنان، أنت تغرم مائة ألف، وهو يغرم خمسين ألفاً؛ لأنك ضمنت الثلثين، وضمن هو الثلث، والمائة والخمسون المستحقة على الشركة تقسم أثلاثاً، فكل ثلث بخمسين ألفاً، فتضمن المائة ألف وهي الثلثان، ويضمن هو الخمسون ألفاً وهي الثلث.
إذاً: فشركة الوجوه قائمة على الذمة، وهي وجوه من جهة أن الناس لا تعطي لك أموالها دَيناً إلا بالجاه،، والجاه سمعة الإنسان.
فلا يمكن أن شخصاً يعطي شخصاً دَيناً إلا وهو يعرف منه الصدق والوفاء، وإذا عرف منه الصدق والوفاء حينئذٍ يعطيه مالاً؛ لأنه ليس هناك عاقل يعطي ماله لشخص يُعرَف بالكذب أو يُعرَف بالخيانة أو نحو ذلك من الأخلاق الرديئة والعياذ بالله.
فإذا جئت تقول: هي شركة وجوه، تنظر إلى أنها لا يمكن أن تقع إلا إذا دفع الناس أموالهم، والناس لن تدفع المال إلا بناءً على الثقة، والثقة لم تكن إلا بالسمعة.
إذاً: كأن الجاه والسمعة أساس في هذه الشركة، فرأس المال وهو العَرَض الذي عليه قامت الشركة افتقر إلى جاه وسمعة، فصارت شركة جاه وسمعة.
وإذا جئتَ تنظر إلى كون الشريكين التزما بالدَّين الذي يترتب على كون أحدهما أخذه، تقول: هي شركة ذمة؛ لأن كلاً منهما التزم في ذمته أن يدفع قدر حصته، فصارت شركة وجوه، وصارت شركة جاهٍ، وصارت شركة ذمة، فيسميها بعض العلماء بـ (شركة الوجوه)، وهذا أشهر أسمائها، ويسميها بعضهم بـ (شركة الذمم)، والمعنى -كما ذكرنا- واحد.
كأن يشتركا في الأقمشة أو الأراضي، فلو كان الاثنان معروفين بالخبرة في تجارة الأراضي والعقار، فقالا: نشتري الأراضي ونبيع فيهما، فما كان من ربح فبيننا مناصفة، وما كان من غُرم لرأس المال لأخذ الأراضي من الناس فبيننا مناصفة، فأي عمارة أو أي مزرعة أو أي أرض أو مخطط يُشترى فبينهما على ما اتفقا عليه غُرْماً وغُنْماًَ.