[ما يقتص فيه من الجراح]
قال رحمه الله تعالى: [فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم].
أي: يتقص من الجاني في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم، وهذا مبني على أن الجناية بالجروح أضيق من الجناية على الأعضاء والأطراف، فإن الجناية على الأطراف والأعضاء يستطاع فيها أن يستوفى من الجاني حق المجني عليه؛ لأنه يستطاع تحديد موضع الجناية على الطرف وعلى منفعته، أما الجناية بالجروح فمقيدة، ولذلك لا يُقتص فيها إلا بحدود، والسبب في هذا: أن الجناية بالجروح لا يؤمن معها الحيف، ولا تؤمن معها الزيادة.
ومدار القصاص على العدل والمساواة، ولذلك يكون أمر القصاص هنا أضيق منه في القصاص في الأطراف، ولذلك قال رحمه الله: (فيُقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم)، وذلك مثل الجروح التي تكون في العضد، والجروح التي تكون في الساعد، والجروح التي تكون في الساق، ونحوها؛ لأنه يمكن ذلك، فلو قيل للخبير في القصاص أن يجرحه جرحاً مثل الجرح الذي فعله بالمجني عليه لأمكنه ذلك، ولكن إذا كان في موضعٍ لا ينتهي إلى عظم، والجناية إن لم تنتهِ إلى عظم فلا تستطيع أن تحدد غور الجرح، بحيث تجرحه مثل جرحه، وتبضع اللحم مثلما بضع لحم المجني عليه، ومن هنا يضيق القصاص في الجروح ويكون صعباً؛ لأنه لا يؤمن معه الحيف، فإذا أراد المقتص أن يقطع مثل قطع الجاني فلن يستطيع أن يزن السكين، أو يزن القطع بنفس الوزن الذي وزنه به الجاني، أو يضربه نفس الضربة، أو يطعنه نفس الطعنة، والقاعدة أن كل ما لا يؤمن معه الحيف فإنه لا قصاص فيه؛ لأنه إذا لم نأمن الحيف فإننا لا نأمن التعدي، والأصل أن الجاني له حرمة، وإنما يؤخذ منه بقدر جنايته، فإذا لم نظمن أن نأخذ بقدر جنايته، فحينئذٍ لا يكون ظلمه للمجني عليه داعياً لنا أن نظلمه هو، وحتى يتحقق بين الطرفين فقد وضعوا ضابطاً هو القصاص في الجرح الذي ينتهي إلى عظم.
قال رحمه الله تعالى: [كالموضحة].
الوضوح: ضد الخفاء، ووضح النهار إذا بان ضوؤه، والموضحة: هي التي توضح العظم، كما لو وقعت خصومة بين الجاني والمجني عليه فأخذ السكينة -والعياذ بالله- فضربه على كتفه، فوجدنا أن الجرح الذي جرحه به أبان العظم وأوضحه، وما أضر بالعظم ولا كسره ولا هشمه، لكنه جرح يظهر العظم، فحينئذٍ انتهى الجرح إلى حد معين وواضح، فتستطيع أن تفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه، سواءٌ أكان هذا في العضد، أم في الساعد، أم في الساق، فهذه كلها يمكن فيها الجرح مماثلاً لجرح الجاني، فحينئذٍ يُقدر الجرح ويُسبر، ثم بعد ذلك يُفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه.
قال رحمه الله تعالى: [وجرح العضد].
العضد: ما بين مفصل المرفق إلى مفصل الكتف، وما بين مفصل المرفق ومفصل الكف يقال له: الساعد، ومثل هذا يقع أيضاً في جرح الساعد، فإنه إذا ضربه بالسكين على ساعده وأوضح العظم، وظهر العظم من ضربته، فيمكن أن يفعل به مثلما فعل بالمجني عليه.
قال رحمه الله تعالى: [والساق].
الساق: ما بين مفصل القدم ومفصل الركبة، فلو أنه ضربه بسكين، أو بآلة جارحة فأظهرت عظم ساقه، ولم تؤثر في العظم؛ اقتص منه في الموضحة، ولو أنها هشمت العظم وكسرت عظم المجني عليه، فقال: أريد أن تفعلوا بالجاني موضحة، فإنه يقتص منه بالأقل؛ إذ لا يستطاع أن يكسر عظمه نفس ما كسر، فيقتص بالأقل، وسيأتينا هذا إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [والفخذ].
أي: والفخذ كذلك، وعظم الفخذ ما بين مفصل الركبة ومفصل الورك الذي في الأعلى، وسواءٌ ما أقبل منه أم أدبر، فإذا ضربه بالسكين عليه فأوضح عظم الفخذ فُعل به مثلما فعل بالمجني عليه، واقتص منه موضحة.
قال رحمه الله تعالى: [والقدم].
إذا أتت الجروح في نفس القدم من مفصل الكعبين إلى أطراف الأصابع، فإنها تنتهي إلى عظم، فلو جرحه جرحاً أوضح عظم قدمه فُعل به مثله، فلو كان جرحاً طويلاً جرحناه جرحاً طويلاً، ولو كان وضوح العظم في نصف الجرح أوضحنا عظمه في نصف الجرح، فخدشناه الخدش ثم أوضحنا فيه، ولو كان الوضح في نفس العضو كاملاً فُعل به مثلما يفعل بالمجني، سواءً بسواء، والدليل على هذا كله قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:٤٥]، فإن هذه الآية الكريمة أصل عند أهل العلم في القصاص في الجروح، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نقتص من الجارح إذا جنى على المجني عليه بجرحٍ، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن القصاص يقع في الجروح كما يقع في الأنفس والأطراف.