[خطر الغرور وعلاجه]
السؤال
من الأمور التي تطرأ على طالب العلم في أثناء الطلب داء الغرور فما هو العلاج لذلك؟
الجواب
إن العلم إذا أريد به وجه الله وابتغى به العبد ما عند الله عصمه الله من الزلل وسدده في القول والعمل، وحقق له كل ما يصبو إليه من مرجو وأمل، فالله هو المطلع على السرائر الذي لا يخفى عليه شيء مما غيبته الضمائر؛ فلذلك يجب على طالب العلم أن يحاسب نفسه دائماً بالإخلاص لله عز وجل وإرادة ما عند الله، وهذه المحاسبة إذا صحبها شيءٌ من الانكسار والاعتراف بعظيم نعمة الله جل جلاله الذي علم الإنسان ما لم يعلم وفتح عليه أبواب العلم، ويسر له سبيله ولولا الله ما فَهِم، ولولا الله ما علم، ولولا الله ما استطاع أن يصل إلى شيء من هذا العلم.
قال تعالى مخاطباً نبيه وأشرف خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣]، فالفضل فضل الله والنعمة والرحمة من الله وحده؛ ولذلك جعل لعباده السمع والبصر والفؤاد، وهي أسباب ووسائل يتوصل بها إلى العلم، فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائماً في الإخلاص لله عز وجل مستصحباً أثناء محاسبته عظيم نعمة الله عليه وجميل وجليل منته لديه، فإذا عرف نعمة الله انكسر لله.
والقلب المخلص كالوعاء النقي بل هو أشرف وأزكى من تلك الأوعية، ولكن الله ضرب المثل، فالقلب المخلص مليء بنور الله عز وجل القلب المخلص امتلأ بالله وحده، وما من قلب يمتلئ بالله إلا وقد انشغل وانصرف عن كل شيء سواه، ففي الله وحده سلوةٌ للإنسان عن كل شيء سواه، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته، وأخلص لله بقوله وعمله وأدرك نعمة ربه، وصاحب الإخلاص بالمعرفة التامة بنعمة الله عليه ذلّ لله وحده، وأصبحت تلك القلوب المخلصة النقية التقية الخلية من الشرك بريئة، ومن الرياء ومحبة المدح والثناء والغرور بالنفس معصومةً بإذن الله عز وجل، وهذه كلها أسباب تحول بين الإنسان وبين الغرور، ولن تجد إنساناً يبتلى بالغرور إلا وجدت في إخلاصه نقصاً وفي عبوديته لله خللا، فلا يدخل الغرور إلا بالانصراف عن الله جل جلاله، ومن جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه زكاه ربه، وزكى عمله وجعل هذا العلم مقرباً له سبحانه، فلا يتعلم كلمة إلا وقربته من الله جل وعلا، ولا يسمع جملة إلا وحببته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب ما فيه إلا الله، فإذا انصرفت القلوب إلى الله طهرها ربها وتولى أمرها مقلب القلوب والأبصار، وتولى أمرها من يحول بين المرء وقلبه، والله يقول عن الذين انصرفوا عنه {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥]، نسأل الله بأسمائه وصفاته ألا يزيغ قلوبنا! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة! كل من يجد الغرور ففيه نقصٌ من الإخلاص وفي إخلاصه دخن، فعليه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تزيد من إخلاصه لله جل جلاله ومن أعظمها وأجلها: الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعر أن هذا العلم أمانة ومسئولية وتبعات، إما أن يفضي بالعبد إلى الدرجات، أو يهوي به في الدركات، فإذا خاف من هذا العلم أشفق على نفسه حتى إنك لتراه من أخلص الناس وهو يشك في إخلاصه ويقول: لا.
ما أنا بمخلص، عملي ليس بمخلص وليس بخالص، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (أدركت سبعين كلهم يخاف النفاق على نفسه).
أُثر هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، فكانوا يحركون القلوب بالإخلاص لله جل جلاله، والمغرور إذا انصرف قلبه عن الله أصابه الغرور، ولقد عتب الله على أقوام اغتروا بأنفسهم وفرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
ليعلم كل طالب علم وليعلم كل متعلم أن الغرور يمحق البركة ويذهب الخير، ولربما صرف الإنسان من الرحمة إلى العذاب فيشقى من بعد السعادة ويهلك من بعد النجاة والعصمة، والله يقول: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} [النحل:٩٤]، فمن دخله الغرور فإنه على مهلكة؛ لأن الله اختار القلب للنظر، فقال سبحانه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:٧٠]، ليعلم الله في قلوبكم الإخلاص، فلا خير يراد إلا بالإخلاص لوجه الله جل جلاله، فالغرور يمحق البركة، والغرور يذهب الخير ويصرف العبد عن الله جل جلاله، ولا يزال العبد يغتر حتى يهلكه الله بغروره، وانظر إلى مكان الغرور وشؤمه وشره، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً ممن كان قبلنا يمشي إذ أعجبه برد عطفيه -يعني: نظر إلى ثوبه وهو جميل- فاختال في مشيته فأصابه الغرور فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة)، هذا في ثوب!! فكيف بمن يغتر بالعلم؟ من الغرور بالعلم: أن يتعاظم الإنسان على الناس وأن يحس أنه بعلمه قد أصبح حاكماً على الناس، فيحتقر من هو أعلم منه، وينتقص من هو مثله، ويترفع على من دونه.
ومن الغرور: أن ينصب نفسه حاكماً على أئمة العلم ودواوين السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة، فوالله لو كانوا أحياءً لخرست أفواه هؤلاء، ولو كانوا أحياء لعموا حتى يقادوا بعلم هؤلاء إلى الجادة والسبيل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ حرمة السلف الصالح، ويحفظ حرمة العلماء وخاصةً أئمة الكتاب والسنة وهم على درجات، فالعلماء الذين شُهِد لهم أنهم أئمة السلف وأجمعت الأمة على جلالتهم ورفعة قدرهم وحبهم وعلو شأنهم وزكاهم الله بالقبول، فوضع الله لهم القبول في الأرض، لا يأتي الإنسان بعد عشرة قرون يشكك في عقائد هؤلاء، أو يشكك في تبيينهم ومنهجهم مغتراً بنفسه، وهو بالأمس كان ضالاً شقياً بعيداً عن رحمةِ الله فما إن وقف في طلبه للعلم حتى يقف مجرحاً ثالباً منتقصاً مزدرياً للعلماء، فإياك ثم إياك أن تقرأ كتاباً أو تجلس في مجلس علم فتقوم وأنت محتقر للسلف، والله ما نصحنا لعلماء الأمة والدين إذا كانت كتبنا تقود إلى ازدرائهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وتجد الإنسان إذا كان الإنسان فقيهاً، يشعر من معه من معه أنه لا فقه إلا فقهه، وإذا كان محدثاً يشعر أنه لا حديث إلا منه أو لا تصحيح ولا تضعيف إلا منه، فلا يبالي بعدها بالعلماء، ويقول: لا تغتر بفلان ولا تعبأ بفلان، هذا لا ينبغي، فإن أول ما يأتي الغرور يبدأ باحتقار أئمة ودواوين العلم الذين شُهِد لهم بذلك، فينبغي عليك أن تتقي الله في سلف الأمة، وأن تتصور هذا العالم الإمام حافظاً للكتاب والسنة، فما كان أحد يتصدر للعلم إلا إذا كان على قدم راسخة، الإمام مالك ما جلس يحدث الناس حتى شهد له سبعون من أئمة الفتوى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهلٌ للعلم، فما كان يتقدم كل زاعق وناعق، فاتق الله ولا تغتر بنفسك إذا كنت مع علماء السلف وأئمة السلف، فينبغي أن نغرس في قلوب طلابنا وقلوب من يتلقى العلم عنا حب السلف وإجلالهم، والترحم عليهم، وذكرهم بالجميل، والإشادة بفضلهم وعلو شأنهم، وهذا من النصيحة لعلماء الدين، ولأئمة المسلمين.
وكذلك النصحية للعلماء الأحياء بألا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل، فبعض طلاب العلم إذا جلس بمجلس عالم جعل ينتقد ويزدري غيره، وإن سمع علم شيخه أصم أذنه عن علم غيره، بل ينبغي على الإنسان أن يعلم أن هذا سنة، وأننا تحت رحمة الله منا المصيب ومنا المخطئ، وأننا لا نستطيع أن نزكي أنفسنا بأن نقول: نحن أصحاب الحق ونحن الذين على النجاة وعلى الصراط المستقيم، بل نبني على غالب ظنوننا ونجتهد بالدليل والحجة حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، فإذا بذل الإنسان السبب فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجرٌ واحد، لكن لا يقتضي هذا ذم العلماء وسبهم وانتقاص غير شيخك، لا.
بل تكون كفيف اللسان عفيف القلب إلا إذا كان هناك أمر فيه اعتداء لحدود الله، فتقول: هذا الأمر خطأ، وفلان أخطأ في هذا الأمر، إذا كان يخالف فيه نصاً صريحاً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى، أو يأتي بعلم من عنده واجتهاد من عنده لا يُعرف له أصل عن أئمة السلف، فهذا شيءٌ آخر، ونحن نتكلم على مسائل شرعية يسع فيها الخلاف من الفرعيات وليس من الأصول، فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يغتر بشيخه، بل عليه أن يستعصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا نسيان فضل أهل الفضل، ولا يعني هذا أن يترك طالب العلم شيخه! لا، بل يتبع شيخه بالدليل، وإذا رأى شيخه يتحرى الكتاب والسنة أحبه لحب الكتاب والسنة، وغار على الحق الذي أجراه الله على يديه وأحب سماع هذا الحق ما دام أنه يرى أنوار التنزيل عليه، وعلى هذا يسير طالب العلم.
ولا يغتر أيضاً طالب العلم بانتقاص غيره، فلربما يكون شاباً اهتدى فرأى غيره من العوام فينتقصهم ويضحك منهم إذا أخطئوا، أو يستخف بهم إذا سألوا، لا ينبغي هذا، فإن الله قد يمقت العبد بذنب واحد، فيغضب عليه غضباً لا يرضى بعده أبداً: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه)، وقد يسخط الله على إنسان يغتر بعلمه فينتقص الناس، فإذا جلست بين عوام يريدون الفائدة فأظهر خشوعك ووقارك، لا من أجل أن يمدحك الناس ولا من أجل السمعة بل لله وابتغاء مرضاته، وقل: هذا العلم الذي شرفني وكرمني ينبغي أن أصونه وأن أحفظه كما أن الله جعله صوناً لي وحرزاً، فيكون الإنسان سهل الكلام مع الناس، سهل الكلام مع العامي إذا سأل أو إذا استشكل، فهذه من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.