للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حكم من ترك الحلق في العمرة ناسياً

السؤال

اعتمرت قبل خمس سنوات ولم أحلق ناسياً، ولبست الثياب وانشغلت ولم أتذكر إلا بعد مدة، فماذا عليَّ، أثابكم الله؟

الجواب

الله المستعان! ما أهون الدين عند الناس؟! وما أكثر الغفلة عن حقوق الله عز وجل؟! شخص يأتي في عمرة ويأتي في حج ولا يحس أنه ضيف على الله سبحانه وتعالى، ولا يفرِّغ قلبه من هذه الدنيا، ولا يحس أنه في أشرف المواطن وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحس بنعمة الله عز وجل، ولا يستشعر أن الله اختاره من بين (الملايين) لكي يطوف حول بيته، وقد يكون في ساعة لا يطوف فيها إلا القليل، ولا يحس بنعمة الله عز وجل الذي سلَّمه من المصائب والنكبات والبلايا، وقد كان بالإمكان أن تنقلب به سيارته، أو تغرق به سفينته، أو تهوي به طائرته ولكن الله سلّم سبحانه وتعالى.

يا ليت الذي يعتمر أو يحج يستشعر أين هو؟ وما هو حاله؟ وفي باب من يقف؟ لو أن الإنسان بمجرد أن يلبي بالعمرة يستشعر أنه ينادي ربه، كان علي زين العابدين يقول: لبيك، فيخر مغشياً عليه، فقيل له: ما شأنك رحمك الله! يا ابن بنت رسول الله؟! قال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك، فعلى الإنسانِ أن يستشعر أنه ضيف على الله عز وجل، فإذا جاء ووطئ هذه الرحاب مؤمناً مخبتاً خاشعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه يرجو رحمته، عندها تهون عليه الدنيا وما فيها، ويصبح في لذة وأُنس، فالإنسان عندما يدخل -ولله المثل الأعلى- ضيفاً على غني من أغنياء الدنيا يحس أنه في نشوة، بعضهم إذا زار غنياً جلس يتحدث بهذه الزيارة السنة، بل السنوات، بل عمره كله، وهو يتحدث أنه زار فلاناً، لا إله إلا الله! كيف وهو في هذه الرحاب الطاهرة في زيارة لملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟! الحاج والمعتمر ضيف على الله، وهذه الغفلة من الناس سببها أن الشخص يأتي ويفعل المناسك وكأنه في سجن، إذا أهل بالحج والعمرة فهو ينتظر فقط متى ينتهي من حجه وعمرته؟! ومتى يحل إحرامه؟! ثم إذا حل من إحرامه لم يفكر مع الغفلة إلا بالرجوع إلى بلده، يريد أن يرجع إلى أهله، لا ينظر إلى نسكه هل أتمه أو لم يتمه؟ لا ينظر هل كان في نسكه على حال توافق السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على خلاف ذلك؟ لا يتفقد نفسه ولا ينظر، ولذلك يعتمر المعتمرون ويكررون، وحالهم بعد العمرة كحالهم قبل العمرة.

ومن الناس من اعتمر فزار بيت الله عز وجل، وسعى بين الصفا والمروة، فانقلبت حياته وتغيرت شئونه، ومن الناس من وقف في هذه المواقف ونزل في هذه المنازل، فرفع الله درجته وأعظم أجره وكفر خطيئته، وهو في كل لحظة وفي كل ثانية يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، فأفاض الله عليه من الرحمات والبركات والخيرات، ما لم يخطر له على بال، وما أسعد أولئك الأقوام والفئام من الناس، الذين وقفوا وابتهلوا وتضرعوا وتذللوا وتبذلوا بين يدي الله عز وجل، في عمرة ما جاوزت طوافاً وسعياً، ولكنهم قاموا بحقها وحقوقها وآدابها وصفاتها على أتم الوجوه وأكملها، فدعوا الله دعوة نالوا بها سعادة لم يشقوا بعدها أبداً.

كيف بهذا الإنسان الذي يأتي ويعتمر، ولم يقصر ولم يحلق؟! بل بمجرد ما ينتهي يركب سيارته، وينسى أين كان غفلة ما بعدها غفلة؛ لأنه لو كان مستشعراً لهذه العبادة، مستجم الروح والبدن؛ لأصبح في هذه اللذة، من الناس من يعتمر ويبقى في لذة عمرته شهراً، بل منهم من يبقى في لذة عمرته سنة، بل منهم من يبقى في لذة عمرته دهراً.

أُناس يأتون من مسافات بعيدة وهم يتمنون أن يعتمروا، فإذا وقفوا أمام بيت الله عز وجل خشعت قلوبهم، وذرفت من خشية الله عيونهم، والواحد منهم يتأمل الكيلو مترات وآلاف الأميال التي قطعها وجاوزها، راجياً لرحمة ربه، فيقف أمام ذلك البيت متضرعاً لربه، متخشعاً متذللاً كل التذلل والتبذل في ذلك المقام الكريم، فيجد تلك النشوة وتلك اللذة وتلك السعادة وذلك الأُنس العظيم بربه سبحانه، قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:٩٧].

ويقول تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:٥] اربط بين الآيتين، من أجل المال تقوم به الدنيا ولا تقعد، والله عز وجل يقول: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:٩٧]؛ لأن فيها قيام الدين والدنيا في هذه العبادة الجليلة؛ لأنها تذكر بالتوحيد وبالإخلاص وبالتجرد.

الإنسان يأتي إلى هذا المكان وإلى هذا البيت، الذي هو بيت ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ولذلك قل أن يأتي مكروب بكربه إلا فُرج كربه عنه، أو ملأ الله قلبه من الإيمان واليقين ما يجعل كربه أُنساً عليه إلى أن ينتهي، نعم! إنها المنازل التي لو علم الناس مقامها عند الله جل جلاله، لعظمها الإنسان؛ لأن تعظيمها من تقوى القلوب لله جل جلاله.

قوله: (ذَلِكَ) اسم الإشارة الذي يدل على العلو، العرب لا تقول: ذلك إلا لشيء بعيد بعيد، ما تقول ذلك لشيء قريب، (ذَلِكَ) يعني: الشيء البعيد، (ذَلِكَ وَمَنْ) يعني: من ذكر وأنثى، غني وفقير، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ} [الحج:٣٢] والتعظيم كلمة ليست بالسهلة، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:٣٢] زكى الله من فوق سبع سماوات الذين يعظمون شعائره، ووصفهم بأنهم متقون، وزكاهم سبحانه وتعالى بأنه قد صلحت قلوبهم؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بالتقوى، أما من كانت فيه الغفلة نسأل الله السلامة والعافية! فهو يأتي بمناسكه ولا يلتفت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحرص على أن يتحلل في مكة بعد عمرته كما هو هديه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي.

وعلى الإنسان عندما يأتي بعمرته ويطوف ويرمل عند بيت الله عز وجل، أن يتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل، ويتذكر أنها أماكن وأنها منازل تسكب عندها العبرات، وأنها منازل تستجاب فيها الدعوات، هنا خشع المؤمنون والمؤمنات، هنا بكى الصحابة والصحابيات، هنا رجفت القلوب، هنا أنابت إلى علّام الغيوب، هنا المقامات بين يدي فاطر الأرض والسماوات، هنا السعادة التي لا شقاء بعدها أبداً، هنا الكرامة التي لا مهانة بعدها أبداً، هنا العز الذي لا ذل بعده، والغنى الذي لا فقر بعده، فكم من رجل فقير وقف بهذا المكان فسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، فرجع غنياً بالله وحده لا شريك له، فالذي يطوف بالبيت وعنده هذه المشاعر، ويبث أشجانه وأحزانه إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ويقف عند المقام يصلي ركعتين فيبتهل إلى ربه، فيسأله في تفريج كربه وتنفيس همه وغمه، ثم ينطلق إلى الصفا والمروة فيقف كما وقف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يترسم خطاه وكأنه أمامه عليه الصلاة والسلام، يقف كما وقف، ويبتهل كما ابتهل، ويدعو كما دعا، ويسأل كما سأل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على الصفا حتى إن أصحابه يصيبهم الملل، يقول ابن عمر: فكنا نملُّ ونحن شباب من طول موقفه عليه الصلاة والسلام، لماذا يقف؟ إنه يقف بين يدي الله عز وجل، وكانت له دعواته، وكان من دعائه كما روى البيهقي في سننه بسند صحيح: (اللهم! إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم! كما وعدتني فاستجب لي، اللهم كما أذقتني الإسلام وهديتني إليه فلا تنزعه مني حتى ألقاك مسلماً)، فسأل الله أعز مسألة.

من عاش هذه اللحظات وهذه المواقف، وجاء وسعى بين الصفا والمروة فهرول وتذكر المكروبة التي فرج الله همها في هذا المكان، لما يأتي بهذه المشاعر ويستشعر هذه المشاعر أينسى هذه العبادة؟ لما يكون متبعاً للسنة ينسى الحلق والتقصير؟ أو ينسى شيئاً من نسكه؟ لا ينسى؛ لأنه متبع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن السنة نسأل الله السلامة والعافية! من أسباب الحرمان.

فإذا استشعر هذه المشاعر انتهى من سعيه وقلبه ونفسه يحدثانه، يريد أحب شيء وأعز شيء وهو رحمة الله عز وجل، ومن أصابته رحمة الله فلا عذاب بعدها أبداً، رحمة الله التي وسعت كل شيء، وكتبها للذين يتقون ويقيمون الصلاة فأفلحوا في الدنيا والآخرة، هو ينتظر الرحمة من الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها ثلاث مرات، (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين).

حسناً! إذا كان عنده هذا الشعور بمجرد ما ينتهي من عمرته، وقلبه يحدثه أن يبادر حتى يصيب هذه الدعوة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات يدعو له بالرحمة من نبي لا ترد دعوته، إنها رحمات مكررة سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتهل بها إلى الله جل جلاله، ثم يأتي وينتهي من عمرته وقلبه معلق بالسماء؛ لأنه في سائر عمرته يدعو الله عز وجل هذه الدعوة: اللهم ارحمني، ومن رحمه الله فلا يعذب، ومن رحمه الله سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وأصاب العز الذي لا ذل بعده أبداً؛ لأن من أصابته رحمة الله فهو في حفظ الله ورعاية الله له سبحانه وتعالى، حتى إن الجنة التي هي غاية ما يتمنى الإنسان من رحمة الله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) من تغمده الله برحمته حسنت خاتمته، وصلح قوله وعمله، وزكى ظاهره وباطنه، ومن أصابته رحمة الله أُمن في قبره وسعد في حشره ونشره، ودخل جنة الله برحمته عز وجل.

نعم! أعدنا وكررنا في هذا السؤال؛ لأنه عمت به البلوى، وكثرت الشكاوى من الناس، بمجرد ما يذهب بعائلته ويركبون السيارة وينطلقون إلى جدة، وبعد أداء العمرة يقول: يا الله! انتهينا من العمرة، وكأن العمرة ثقل يلقى، وكأنها حمل يتخلص منه، ما يستشعر أين كان؟ وأين هو؟ وما هذه الرحمة التي يعيشها؟ فحينئذٍ ندعوه إلى أن يحرص عل

<<  <  ج:
ص:  >  >>