قال المصنف:[ومن ترك واجباً فعليه دم] أي: أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه دم، والأصل في ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض أهل العلم: الأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة، وهذا الحديث حاصله: أن كعب بن عجرة يوم الحديبية رضي الله عنه وأرضاه لما حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم:(ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: قلت: لا، ثم نزلت آية الفدية)، قالوا: فأمره بالدم أولاً، وكان هذا بمثابة الأصل، وهو أن الإخلالات أو الخروج من الواجبات أو الوقوع في المحظورات إنما يفتدى فيه بالدم، فنزلت آية الفدية استثناء من الأصل وبقي ما عداها من الواجبات اللازمة على الأصل الموجب لضمانها بالدم.
ثم إن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه، انتزع من آية التمتع وجوب الدم على من ترك الواجب، وتوجيه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أوجب على من جاء بالعمرة في أشهر الحج -وبقي بمكة ثم أحرم بالحج من مكة- إن كان آفاقياً أن يريق دماً، وبالإجماع على أن المتمتع يلزمه الدم بشروط التمتع المعروفة، على ظاهر آية البقرة في التمتع، قالوا: فوجب على الآفاقي إذا تمتع أن يريق دم التمتع، وهذا الدم إنما وجب عليه؛ لأنه كان الفرض عليه بعد انتهائه من عمرته أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته، فلما ترك هذا الواجب ألزمه الشرع بالدم ضماناً له، ويدل على هذا أن أهل مكة حينما يتمتعون من مكة يتمتعون بالحج والعمرة، فيوقعون العمرة في أشهر الحج ويهلون بالحج بعدها ولا يجب عليهم الدم؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من الموضع المعتد به، وأما الآفاقي فإنه يلزم بالدم، فدل تفريق الشرع بين الآفاقي وبين المكي في الإلزام بالدم، أن ذلك مبني على وجود السفر من الآفاقي؛ والسبب في هذا السفر إنما هو الواجب عليه من كونه يحرم من الميقات، قالوا: وعلى هذا كانت فتواه المشهورة، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح:(من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً).
ثم قالوا أيضاً: إن الشرع أوجب على من كان به الأذى في رأسه، فهذا كعب بن عجرة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض معذور من الشرع، قد دلت الأدلة على أن مثله يستحق أن يخفف عنه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالفدية، قالوا: فإذا كان هذا المعذور عند تركه لهذا المحذور وحلق رأسه، أو أخل بالمحذور الذي ينبغي أن يلتزم تركه في إحرامه، ألزمه الشرع بالفدية التي فيها الدم، فمن باب أولى من يتعمد الإخلال، إذ لا يعقل أن تقول لإنسان يترك الواجب من دون عذر: لا شيء عليك، وتقول لمن هو معذور: يجب عليك واحد من ثلاثة: أن تطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تذبح شاة، مع أن الله عذره وقال:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}[البقرة:١٩٦] قالوا: فأصول الشرع تقوي فتوى ابن عباس.
ثم إننا وجدنا جماهير السلف رحمهم الله، ومنهم الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة كلهم يفتون: أن من ترك الواجب فعليه دم، ولا شك أن مخالفة هذا السواد الأعظم من الأمة مع فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وعدم وجود من خالفه من الصحابة رضوان الله عليهم أمر لا يخلو من نظر، وعلى هذا درج جماهير السلف والخلف رحمهم الله على إلزام من ترك الواجب بالدم، وعليهم انعقدت فتاوى أئمة الإسلام، فقل أن تجد من أسقط الدم عمن ترك الواجب، وهو الذي اشتهر وذاعت الفتوى به، خاصة وأن له منتزعه من دليل الكتاب وظاهر حديث كعب بن عجرة الذي ذكرنا.
فقوله:(ومن ترك واجباً فعليه دم) أي: يلزمه دم، والدم هنا نكرة، وليس المراد به كل دم، وإنما المراد الواجب عليه شاة، وهذه الشاة تذبح بمكة ولا تذبح بغيرها؛ لأنه دم واجب، كما أوجب الله في قتل الصيد الذي هو إخلال في النسك، أن يكون هدياً بالغ الكعبة، فيجب عليه أن يكون بمكة، وهذا الدم يسمونه: دم الجبران في الواجبات، والأصل في إيجابه أنه منتزع من آية التمتع، والمتمتع لا يصح منه أن يريق دمه خارج مكة، قال صلى الله عليه وسلم:(نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر)، فدل هذا على أنه ينبغي أن يتقيد بهذا الدم بمكة، ويكون طعمة للمساكين فهو دم واجب عليه كالهدي الواجب في قتل الصيد.