للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تأملات في آيات الظهار]

يقول تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:١ - ٢].

آيات عظيمة ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها قبل بيان الحكم في حقيقة الشيء الذي يتكلم عنه، وانظر إلى جمال أسلوب القرآن وجلاله وكماله، وصدق الله إذ يقول: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥]، فأول ما جاءت الآيات جاءت بحكاية الحال، وحكاية الحال تورث الشغف، وتورث المحبة والتلهف لمعرفة الحكم.

ولذلك يستحب العلماء عند إعطاء الأحكام التمهيد لها؛ لأن ذلك يورث الإنسان المحبة، ويورث السامع الشوق لمعرفة الأحكام، فذلك أتم وأكمل في شرع الله عز وجل.

ولذلك ما جاء الحكم مباشرة، وإنما جاء بحكاية القصة، وأنت تجد في القرآن كل شيء حتى مبادئ كتابة الرسائل كقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣٠ - ٣١].

وقد ذكر بعض العلماء أن الأئمة وأهل العلم في فنون الرسائل استنبطوا كثيراً من علوم الرسائل من القرآن، ومن ذلك القصة، فإن أهم شيء في القصة هو ما يكون فيها من المعاناة، فكون القرآن يأتي بمعاناة الظهار قبل بيان حكمها وبيان ما حدث ووقع، حتى إنك حينما تسمع صدر الآية تحس بمعاناة قريبة من معاناة تلك المرأة وتحس أنه أمر عظيم، ثم تكون التهيئة لقبول الحكم.

وفيه دليل على عظم أمر الظهار وخطورته وشدة حرمته؛ لأن الله مهد له بهذه الأشياء التي تنفر وتقبح، وتجعل النفوس لا تستسيغه ولا تقبله، فلما جاء الحكم قال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:٢]، فأول ما كان أن بين الله منزلة هذا القول أنه ظلم وزور وكذب وجور فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:٢].

وقال بعض العلماء: قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:٢] فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقول لغيره من الرجال والنساء وصفاً في الأبوة والأمومة إلا إذا كان حقيقياً.

ومن هنا كره بعض العلماء أن يقول الرجل لغيره: (يا أبتي).

واختلفوا في قول الرجل لغيره: (يا والد)؛ لأنها تحتمل أن تكون وصفاً له، فكل شخص له أولاد فهو والد، فهو يقول له: (يا والد) من باب التكريم، قالوا: لا بأس بها ولا حرج، ولكن يشدد فيه بعض العلماء؛ لقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:٢] وآباؤهم ما هم إلا الذين ولدوهم.

فقالوا: من هنا يمتنع أن يقول الإنسان هذه المقالة تشريفاً وتكريماً للوالدين؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينزل منزلة الوالدين.

ومن هنا حرم بعض العلماء كلمة: (فداك أبي وأمي) أن تقال إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم رخص فيها لأئمة العلم، وكل هذا من باب تعظيم الشرع لوصف الأبوة والأمومة، وإن كان الحكم عاماً.

فقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:٢] أي: ما أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم.

فهو أسلوب حصر وقصر، وهذا يدل على أن الظهار قول خرج عن الأصل، فقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:٢]، وفيه تأكيد، وصيغة التأكيد (إِنَّهُمْ) واللام في (لَيَقُولُونَ) والقول معناه أنه صدر من إنسان تلفظ به، فجمع الله بين كونه منكراً وزوراً، وفيه فوائد: الفائدة الأولى: كونه منكراً من جهة الإنشاء، وكونه زوراً من جهة الخبر؛ لأن قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي يشتمل على أمرين: تحريم ما أحل الله، والإخبار بأنها كالأم.

فالأول من جهة الإنشاء؛ حيث إن الله عز وجل ما جعل الزوجة أماً، وإنما جعل الزوجة حلالاً محللة مباحة، فهو نقلها من الحل إلى الحرمة، ووقع في المنكر؛ لأنه لا يتفق مع شرع الله عز وجل، وزور لأنه من جهة الخبر قال لها: أنتِ كأمي، أو: كأختي، أو: كبنتي، فهي ليست أماً له وليست بنتاً له حقيقة، فكان كذباً في الخبر ومنكراً في الإنشاء، فجمع الله بين الوصفين {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:٢].

الفائدة الثانية: أخذ العلماء من هذه الآية تحريم هذا القول وهو محل إجماع.

الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: مظاهرة الرجل لامرأته كبيرة من كبائر الذنوب، والسبب في ذلك وصف الله أنه منكر وزور، وترتيب العقوبة الشديدة التي جعلها الله في قتل الأنفس، وجعلها في جماع نهار رمضان، ولم يجعلها إلا في الكبائر، فقالوا: هذا يدل على أن الظهار كبيرة من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة والعافية.

ثم انظر إلى سعة رحمة الله عز وجل في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:٢] ولطفه بعباده وحلمه على خلقه، كيف وهو الودود الرحيم سبحانه وتعالى، والجواد الكريم الذي لن تنفعه طاعة الطائعين ولن تضره معصية العاصين.

وانظر إلى التأكيد، فما قال: إن الله عفو، بل قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:٢]، وهذا يدل على سعة رحمته سبحانه وتعالى.

ثم بيّن الحكم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:٣].

فأوجب الله سبحانه وتعالى الكفارة، وبيّن ما يترتب على الظهار -وهذا ما سنفصله إن شاء الله- من وجوب عتق الرقبة، فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم فإنه يطعم ستين مسكيناً.

ولما نزلت الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأمره بعتق الرقبة، فقالت: لا يجد يا رسول الله، ولا يملك إلا نفسه.

فأمرها أن تأمره أن يصوم شهرين فأخبرته أنه شيخ ضعيف لا يستطيع الصوم ولا يطيقه، فأمرها أن تأمره بإطعام ستين مسكيناً فقالت: من أين له أن يجد ذلك؟ ثم قالت: يا رسول الله إن عندي عرقاً من تمر -والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، أي: فيه ما يقارب سبعة آصع ونصف- فقال عليه الصلاة والسلام: (وأنا أعينه بعرق آخر، واستوصي بابن عمك خيراً).

فقد كان من خيار الصحابة، فكانت الكلمة الأخيرة أن جزاها خيراً بمعونتها له على الكفارة ثم قال لها: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فدل على كرم خلقه صلى الله عليه وسلم ووصيته بالأزواج.

وكذلك وصيته للزوجات بالصبر، وأن المرأة تحتسب عند الله سبحانه وتعالى الثواب، وأن الله جل وعلا لا يضيع عمل عامل، ولا يضيع لمن أحسن أجره، فقال عليه الصلاة والسلام هذه الوصية، وهي وصية لكل امرأة صالحة ترجو لقاء الله عز وجل ابتليت بزوج أساء إليها أن تحتمل هذه الإساءة، وأن تستوصي به خيراً؛ لأن الزوج حينما يكون من القرابة حقه عظيم، والزوجة حينما تكون من القرابة حقها عظيم، فلذلك قال: (واستوصي بابن عمك خيراً)، فهي وصية لكل زوج وكل زوجة قريبة أن يتقيا الله عز وجل في القرابة وفي الرحم.

وقد أجمع العلماء على حرمة الظهار كما ذكرنا، وأنه من كبائر الذنوب في قول طائفة من أهل العلم، وذكرنا دليل ذلك.

فقول المصنف رحمه الله: [كتاب الظهار].

أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالظهار، ومناسبة هذا الكتاب لما قبله أن كتاب الطلاق وكتاب الإيلاء وكتاب الظهار بينهما اشتراك من جهة التحريم، فالطلاق فيه تحريم للزوجة على مراتبه المعروفة، والإيلاء نوع تحريم؛ لأنه مؤقت بزمان، والظهار نوع من التحريم؛ لأنه يصف المرأة بأنها كالمحرمة، فناسب بعد انتهائه من بيان حكم الإيلاء أن يذكر حكم الظهار.

ومن دقة المصنف -وهذا منهج العلماء- أن قدم كتاب الإيلاء على كتاب الظهار؛ لأن كتاب الإيلاء ألصق بالطلاق من الظهار؛ فإن الظهار ليس بالطلاق، لكنهم قالوا: لما كان في الجاهلية طلاقاً وفيه شبه بالإيلاء من جهة التحريم ناسب أن يذكر بعده.

وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>