[حقيقة الخلاف في الأعضاء التي يصح المظاهرة منها]
للعلماء وجهان في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة:٢] وذلك في لفظ الظِهار، وهو قوله: أنتِ عليّ كظهر أمي، فهل المراد بالظهر هنا الحقيقة وهو العضو المعروف من الكاهل إلى العجز، أم أن المراد به الظهر المركوب؛ لأن العرب تعبر بالظهر عن المركوب.
ولذلك لما سأل رسول الله المرأة فقال لها: (ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! ما معنا ظهر -أي: ما عندي ظهر- ليس لنا إلا ناضح قد حج عليه أبو فلان) الحديث، وفيه: فقال لها: (فإذا كان رمضان فاعتمري؛ فإن عمرة في رمضان كحجة معي).
ومما يدل على أن الظهر المراد به المركوب، قوله عليه الصلاة والسلام: (الظهر مركوب بنفقته)، فالظهر المراد به المركوب والناقة التي تركب، فيعبر به ليكنى به عن الشيء المركوب.
فإذا قيل: إن الظهر المراد به المركوب فالمراد به الجماع وإتيان المرأة؛ لأن الرجل يجامع زوجته، فكأنه حرم جماعها، فهو يقول لها: جماعك عليّ حرام كجماع أمي، أو: جماعك عليّ حرام، كجماع من سمى ممن تحرم عليه.
الوجه الثاني يقول: إنما المراد به الظهر نفسه حقيقة، والعرب عبرت بالظهر وهو مجمع الإنسان؛ لأن حركة الإنسان كلها موقوفة على هذا الظهر، وقيام الإنسان كله بهذا الظهر، فهو يشبه شيئاً بشيء، يعني الذات بالذات.
وعلى كلا الوجهين لو قلنا: إن المراد به الظهر فمعنى ذلك أن الظِهار حكم الله بكونه ظهاراً مع أنه تشبيه بالجزء.
ولذلك من العجيب أن بعض الظاهرية رحمهم الله رحمة واسعة -وهذا ليس من النقص لهم، فلا يظن أحد أننا ننتقص هؤلاء الأئمة والعلماء- قالوا: لو قال لها: أنتِ عليّ كأمي لا يقع الظهار، وإذا قال: أنتِ عليّ كظهر أمي يقع الظهار.
وقولهم مرجوح، لكن لا ينقص من مكانتهم رحمهم الله برحمته الواسعة، وهذه الأمور التي تقع من بعض الفقهاء ينبغي أن يعلم أنها من الغيرة على النص والالتزام بظاهر النص والتقيد بالشرع، ولو أنه في بعض الأحيان يزاد في ذلك ويتجاوز به عن حده.
لكن انظر إلى مدى الاهتمام بالفقه الإسلامي، وكيف بلغ من التقيد بالنصوص؛ حيث إن الظاهرية يتقيدون بالنص كما ورد، حتى إن بعضهم قال في مسألة البول: لو بال في إناء وصبه لما شمله التحريم كالبول مباشرة.
وصحيح أن هذا كله من الجمود على الظاهر، لكن المقصود هنا أن نقول: إنه إذا حذف الظهر أو أبقاه فالحكم واحد.
والدليل على هذا أن الشريعة تعبر بشيء وتنبه على أن ما هو أعلى منه من باب أولى أن يدخل تحت النص؛ لأنه إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي فمن باب أولى إذا قال لها: أنتِ عليّ كأمي.
فإذا كان الظهر وحده أوجب التحريم فمن باب أولى إذا ذكر الكل.
وعلى كل حال فكل المحرمة أو بعضها يوجب الظِهار، لكن ليس كل أجزاء المرأة المحرمة عند العلماء رحمهم الله يقع التحريم بالتشبيه به، فالحنفية خصوا الأعضاء التي يحرم النظر إليها، فلو قال: أنتِ عليّ كظهر أمي فظهر الأم يحرم النظر إليه، ويحرم أن ينظر إلى فرجها أو فخذيها أو بطنها، فهذه هي الأشياء التي عندهم فيها الظهار.
لكن لو قال لها: أنتِ عليّ كيد أمي قالوا: لا يقع الظهار؛ لأن اليد يجوز النظر إليها وليست بمحرمة، ويجوز أن يصافحها وأن يمس يدها، فقالوا: هذا لا يقتضي التحريم.
وهذا اجتهادٌ منهم رحمهم الله، فهم نظروا إلى أن الظِهار فيه لفظ الظهر، وأعملوا المعنى ونقحوا مناط النص، فنظروا إلى أن الظهر يحرم النظر إليه ويحرم الاستمتاع به، وجمعوا أوصافاً موجودة في هذه الأربع دون غيرها وقالوا: الحكم مختص بهذه الأربع دون غيرها، فلو قال لها: أنتِ عليّ كرأس أمي لا ظهار ولو نوى به الظِهار، فلا يقع عندهم ظهاراً.
ومذهب المالكية رحمهم الله من أوسع المذاهب في مسألة الظِهار، فعندهم لو أنه قال لها: أنتِ عليّ كريق أمي.
أو قال لها: كلي، أو: اشربي ناوياً به الظِهار وقع الظِهار؛ لأنهم يوسعون في ذلك، كما هو أيضاً عندهم في مسائل الطلاق، وفائدة معرفة الأقوال الفقهية والخلافات معرفة مسالك العلماء رحمهم الله في الأبواب.
فالمالكية رحمهم الله يشددون في التحريم في الطلاق وفي الظِهار، وقد تقدم معنا بيان مسائل عديدة، وبينا أدلتهم في ذلك، ولكن الشافعية والحنابلة رحمهم الله فصلوا، فقال الشافعية في تفصيلهم: إما أن يذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال، أو يذكر عضواً لا يعبر به عن ذلك، فإن ذكر عضواً يعبر به عن التكريم والإجلال سألناه عن نيته، فإن قال لها: أنتِ عليّ كعين أمي، أنتِ عندي كرأس أمي، قالوا: نسأله هل قصدت الظِهار؟ فإن قال: قصدت الظِهار ليكون ظهاراً، وإن قال: لم أقصد ظهاراً، وإنما قصدت إعزازها وإكرامها وأنها عندي بمنزلة أعز شيء من الناس وأغلاهم عندي وهو أمي، وأعز شيء في الإنسان رأسه، فقلت لها: أنتِ كرأس أمي فحينئذٍ لا ظهار.
وهذا القول صحيح وأميل إليه، فإذا ذكر أعضاء يقصد بها التشريف والتكريم كالرأس والصدر، وقصد من هذا إكرامها فليس بظهار، وإن قصد الظهار فهو ظهار.
ثم أيضاً فصلوا مع الحنابلة في مسألة الأعضاء المتصلة والمنفصلة، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في الطلاق إذا أسند الطلاق إلى عضو متصل أو إلى عضو منفصل، فإذا كان في الأجزاء المنفصلة فإنه ليس بظهار، وإن كان في الأجزاء المتصلة فإنه ظهار على التفصيل الذي ذكرناه.
وأجزاء الإنسان منها ما هو متصل ومنها ما هو منفصل أو في حكم المنفصل، وما في حكم المنفصل متردد بين المنفصل والمتصل، ورجح أنه في حكم المنفصل، فالدمع والريق واللعاب كله في حكم المنفصل، فلو قال لها: أنتِ كريق أمي ليس بظهار؛ لأنه ليس بعضو متصل، ولم يقع التشبيه بالوارد فيه النص من كل وجه، ولذلك لا يقتضي التحريم من كل وجه.
فالأعضاء التي اختلف فيها هل هي متصلة أم منفصلة هي كالشعر والظفر، وقد ذكر هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس (القواعد الفقهية)، وذكر شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل.
وهذه المسألة تتفرع عليها ما لا يقل عن خمسين مسألة من مسائل الفقه، ومنها هذه المسألة، فإن قلنا: إن الشعر في حكم المتصل فإن قال لها: أنتِ عليّ كشعر أمي، أو شعركِ مني كشعر أمي، أو شعركِ عندي كشعر أمي فظهار.
وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل فليس بظهار، وإن قال لها: شعرك طالق فليس بطلاق إن كان منفصلاً، وهو طلاق إن كان في حكم المتصل.
ففصل العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والصحيح أن الشعر والعظم والظفر في حكم المنفصل لا في حكم المتصل.
قوله: [بنسب أو رضاع].
بالنسب كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وهن السبع اللاتي سمى الله عز وجل، والرضاع مثلهن، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وفي حكمه التحريم بالرضاع من جهة المصاهرة.
قوله: [من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل] (من) بيانية، فسواء أذكر الظهر وهو الأصل، أم البطن أم عضواً آخر كاليد، لكن بشرط أن يكون غير منفصل، فالشعر ينفصل لأنه يقص فينفصل، فلو قال لها: أنتِ عندي كشعر أمي فشعر أمه منه ما يتساقط، فليس ذلك موجباً للتحريم من كل وجه.