وهذا ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله:(فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) وهذه رواية صحيح مسلم، ومعنى (أقدمهم سِلماً): أي: إسلاماً.
ويمكن الآن أن يُنظر إلى التزام الشخص واستقامته وهدايته، فلو كان كِلا الشخصين حافظاً للقرآن عالماً بالسنة، ولكن أحدهما أقدم وأسبق في الالتزام وسنهم سواء؛ فإننا نقدم من نشأ في طاعة الله عز وجل على من هو دونه؛ ولذلك له شرف السَّبق والالتزام بدين الله عز وجل فحملوا عليه رواية الصحيح:(فأقدمهم سِلماً)، وقال صلى الله عليه وسلم:(فإن كانوا في السِّلم سواء فأقدمهم هجرةً) وفي رواية الأشج في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأقدمهم سناً) بدل (سِلماً)، وعليها حُملت الرواية بتقديم الأسن، ثم بعد السن جاء التفضيل من جهة الهجرة، وكانت الهجرة -ولا زالت- سنة من السنن، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولذلك الهجرة باقية، وإذا كان أحدهم أقدمهم هجرة فإنه يقدم لسبقه إلى الإسلام، وابتلائه في ذات الله عز وجل، وصبره على هذا الابتلاء أكثر من غيره، وهذا يدل على أن التقديم كله من جهة الدين، وهذا شرفٌ للإنسان من جهة الدين لا من جهة الدنيا.
قال رحمه الله تعالى:[ثم الأتقى].
الأتقى: أي: الأكثر تقوى لله عز وجل، وهذا بلا إشكال؛ لأن الله تعالى يقول:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:١٣]، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم أشخاصاً للإمامة ومفاضلته بين المتقدمين يدل على أن الأتقى لله عز وجل مُقدّم؛ فإن الأتقى لله عز وجل ينفع الله بقراءته، وينفع الله بمواعظه، وينفع الله بهديه واستقامته، بخلاف الفاسق الفاجر المتهالك المتهافت، فإنه قد يدعو الناس إلى الرذائل، وقد يستخف الناس بالحرام بسبب وجود هذا الفاجر والعياذ بالله، وقد ترى هذا الفاجر وهو إمام يصلي بالناس يفعل أموراً لا تليق بمثله، فيُشِين الإمامة ويجعل الناس في نفرة من دين الله عز وجل، ولكن الأتقى لله عز وجل على العكس من ذلك؛ فإنه لا يزال الإنسان يتمسك بشريعة الله عز وجل ويلتزم بدين الله حتى يتأثر به من يراه، ويحبه من يسمع قوله ويرى هديه، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم:٩٦] أي: سيجعل الله لهم في القلوب حباً.
ولكن بالإيمان والعمل الصالح، فإذا كان الإمام تقياً نقياً يخاف الله عز وجل ورعاً بعيداً عن الحرام فإن هذا أدعى لتأثر الناس به واقتدائهم به.