[مقاصد الشريعة من فرضية الزكاة]
يقول رحمه الله: [كتاب الزكاة].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بفرضية الزكاة.
والله تعالى قد أمر بالزكاة في كتابه وأجمل، حيث لم يبين ولم يفصل أحكام الزكاة، وإنما فصلتها السنة، ولذلك يعتبر الأصوليون رحمة الله عليهم الأمر بالزكاة في القرآن من المجملات، ويعتبرون أدلة السنة مبينة، ويذكرون من أمثلة المجمل إجمال القرآن للزكاة وتفصيل النبي صلى الله عليه وسلم لأنصبتها وشرائطها وأركانها مما يلزم للحكم بها؛ فلذلك يقولون: إن القرآن أجملها والسنة بينتها.
لقد أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة وفرضها لحكمٍ عظيمة، ففيها الخير لمن يزكي ولمن تؤدى إليه، ولا يقتصر الخير عليهما، بل يشمل المجتمع كله، ففيها خير للإنسان الذي يزكي، إذ هي زيادة قربةٍ وامتثالٍ وطاعةٍ لله عز وجل، فإذا أداها زاد خيره وعظم أجره بالامتثال.
ثانياً: أنها تقوي يقينه بالله سبحانه وتعالى من جهة كونه يُحسن الظن بأن الله سيخلف عليه، وأن الله سيعوضه خيراً.
ثالثاً: أنها تطهر نفسه من أدران الشح والبخل، ومالك المال إذا جاد به وأنفقه وأحسن به إلى الناس أخرجه الله من رقه، فأصبح مالكاً للمال، ولم يكن المال مالكاً له، وإذا تعوّد الإنسان الإنفاق من ماله قوي على هذا المال، وإذا تعود على كنزه وحفظه، فإن المال يأسره -نسأل الله السلامة والعافية- حتى يأتي عليه يوم لا يستطيع أن ينفق من هذا المال حتى لصحته وصحة أبنائه وأطفاله وزوجته، كل ذلك لأن المال أسره، وحب المال -والعياذ بالله- فتنه، فإذا أدى الزكاة تعود أن يخرج من رق المال ومن أسر المال له.
وكذلك أيضاً فيها خير له من جهة أن الله عز وجل يضاعف له المال وينميه، ولا تنقص هذه الزكاة من ماله، بل إن الله عز وجل يعوضه في هذا المال حساً ومعنى: يعوضه حساً، فتربح تجاراته وتعظم أمواله؛ ولذلك تجد المزكين بخير الأحوال ولربما يعوضه معنى، فيجعل البركة في ماله؛ فإذا كانت تجارته أقل من تجارة الغير عدداً فإنها أكثر بركةً، والعبرة بالبركة، فإن الله سبحانه وتعالى قد يغدق المال الكثير على العبد وينزع منه البركة؛ فيصبح كأفقر الناس -نسأل الله السلامة والعافية- ولربما تجد الإنسان قليل المال، ولكن وضع الله له فيه البركة، فيعود عليه بالخير كما لو كان عندهُ أضعاف هذا المال، ولذلك يقول العلماء: ليس المهم أن يجد الإنسان الخير في الدنيا، ولكن الأهم أن يضع الله له البركة فيما وهبه من خير الدنيا.
فمثال ذلك: قد تجد عند الرجل التسعة والعشرة من الأولاد، ولكن الله ينزع منهم البركة، فيجد فيهم العقوق والأذية والضرر حتى يتمنى أنه عقيم لا ولد له -نسأل الله السلامة والعافية- فنزع الله منهم البركة، وجعلهم شقاءً عليه.
ومن الناس من تجد عنده الولد الواحد ذكراً أو أنثى، قد وضع الله فيه سعادة الدنيا، فيكفي أباه همه، ويقوم على شأنه، ويجده في الشدائد عوناً بعد الله سبحانه وتعالى، فيجد فيه من الخير ما لا يجده صاحب العشرة والعشرين من الولد مما وضع الله من البركة في هذا النسل أو هذا العقب.
فالعبرة في خير الدنيا الذي يهبه الله من الأموال والأولاد والتجارات ونحوها: أن يضع الله البركة فيها، وقد تجد الإنسان يملك الملايين ولكنها تذهب سداً، وقد تجده يملك مئات الألوف ولكن الله ينزع منها البركة، فزوجته مسرفةٌ في إنفاقها وأولاده يسرفون، فلا يجد بركةً لماله، خاصةً إذا اكتسب المال من الحرام؛ فإن أول شؤم الحرام أن ينزع الله منه البركة، فالزكاة سبب للبركة في الأموال، ويصلح الله بها حال المال، ولذلك تجد المزكي على خير دائمٍ في ماله وطمأنينة وانشراح صدر مع ما في الزكاة من دفع البلاء عن المال؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا وفى العبد له بحقه حفظ له ماله وبارك فيه.
كذلك أيضاً فيها خير لمن تؤدى إليه الزكاة، فالفقراء والضعفاء ينجبر كسرهم وتفرج كرباتهم، والمديون يُقضى دينه، وغير ذلك مما يحصل من الخير للضعفاء والمساكين.
هذا الضعيف والمسكين يرتاح قلبه بأداء الزكاة إليه؛ فتندفع نفسه عن التفكير في الحرام، وكذلك الحقد على إخوانه الأغنياء من المسلمين، فإذا وجدهم يحسنون إليهم أحبهم، وبناءً على ذلك يبتعد عن كثير من المفاسد، مع ما يحصله من المصالح، فيها خيرٌ للمجتمع؛ لأنها تقوي أواصر المحبة، فطبقة الأغنياء والفقراء لا بد منها؛ لأن الله رفع بعضنا على بعض وفضل بعضنا على بعض، وجعل بعضنا فوق بعض درجات ليتخذ بعضنا بعضاً سخرياً، ابتلاءً للأغنياء وللفقراء، فالأغنياء يبتلون كيف يعاملون الفقراء والضعفاء، والضعفاء يبتلون كيف يصبرون على أذية الأغنياء وإذلالهم لهم.
فهذا الابتلاء من لازم وجود الأغنياء والفقراء أن يحصل التنافس بينهم، فلربما يحقد الفقراء على الأغنياء، حتى تأتي الساعة التي تسرق فيها الأموال وتغتصب، وذلك بسبب منع الأغنياء لأموالهم، فلو أن الله لم يفرض الزكاة وأصبح الفقير فقيراً فسيحقد الفقراء على الأغنياء؛ لأنهم يجدون أنهم في ضيق وشدةٍ؛ هذا الغني يتمتع بملاذ الحياة، والفقير لا يجد قوام عيشه فضلاً عن أن يتمتع في حياته، فيحقد الضعيف على القوي، ويحقد الفقير على الغني.
فإذا جاء الغني وأعطى الفقير زكاة ماله، وأشعره كأنه شريكٌ له في هذا المال؛ اطمأنت نفسه، ودعا له بالخير والبركة، ولذلك تجد الفقراء يحبون الأغنياء بحسناتهم وصدقاتهم ويدعون لهم بالخير، حتى إنهم إذا سمعوا بالنكبة لهذا الغني دعوا الله أن يفرج عنه وأن يخفف عنه، فكم من بيوتٍ تقوم على إحسان الأغنياء، قد جعل الله هذا الإحسان سبباً في دفع البلاء عن هؤلاء الأغنياء، فترفع لهم الأكف آناء الليل وأطراف النهار بأن يحفظ الله أموالهم، وأن يحفظ الله أبناءهم وذرياتهم؛ فيعود الخير على أفراد المجتمع وتجتمع القلوب.
إضافةً إلى أن السرقات والغصوبات ونحوها مما تكون بسبب الفقر لا تنتشر بين المسلمين؛ لأن الفقير يعطى من الزكاة نفقة العام كما سيأتي إن شاء الله الإشارة إليه، فكأنه كُفي، وبناءً على ذلك فإن انتظام الزكاة من صالح الأفراد والجماعات.
ونظرة الإسلام إلى المال وسطية، لأن هناك نظرة مادية تعظم المال حتى كادت أن تعبده، كما هو منهج الرأسمالية، وهناك نظرة تنظر إلى المال كأنه لا قيمة له إلى درجة سوت بين الأغنياء والفقراء كما هي نظرة الاشتراكية، فجعلت الفقير يشارك الغني في كده وتعبه ونصبه وشقائه فظلمت الغني، وأولئك ظلموا الفقراء، والشريعة عدلت بين الفقراء والأغنياء، فجعلت في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فبذلك حفظت الغني من بطره وأشره واكتنازه لماله، مع ما أعد الله للغني من الثواب في الآخرة.
فجاءت نظرة الإسلام وسطية بين تعظيم الأموال والنظرة إليها أنها هي كل شيء كما هو منهج الرأسمالية، وبين إهانة المال والاعتداء على الملكية الفردية كما هي نظرة الاشتراكية، فأتى الإسلام بالوسطية: فجعل للمال حقه، وجعل للغني يده، ولم يظلمه في تعبه، فكيف يسوى بين الذي يتعب ويكدح آناء الليل وأطراف النهار، ويحصل الأموال بكده وتعبه -بعد توفيق الله عز وجل- وبين العاجز الخامل؟! فلو أنه سويّ بين الغني والفقير -كما يقال في مذهب الاشتراكية- فإن هذا يجعل المجتمع في بطالة، ويقوي على البطالة ويعين عليها، ولكن الإسلام لا ينظر إلى هذا، يقول: أعط الفقير، ولكن بشرط أن يكون عاجزاً عن الكسب، يكون قد ضاقت يده في ظروفٍ معينة وحدودٍ ضيقة، وكذلك أيضاً ملَّك الغني ماله، فأعطى كل ذي حقٍ حقه، وما ظلم الله عز وجل لا الأغنياء ولا الفقراء، مع أنه سبحانه وتعالى هو مالك الأموال ومن ملكها، ولو قال الله عز وجل لنا: أدوا أموالكم كاملة لأديناها؛ لأنها ما كانت لنا ولم تكن إلا بفضله سبحانه وتعالى، هو الذي أنفق على عباده وأغنى الغني بفضله وكرمه.
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة].
من عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يرتبوا مؤلفاتهم الفقهية، فهم يبدءون بكتاب الصلاة، وحين يبدءون بكتاب الصلاة يهيئون له بكتاب الطهارة، فيبينون الشروط المعتبرة للصلاة ومنها الطهارة، وبعد بيانهم للصلاة وما يتعلق بها يقولون: كتاب الزكاة.
فبعد أن فرغ رحمه الله من كتاب الصلاة شرع في كتاب الزكاة، وعبر بـ (كتاب) ولم يقل: (باب)؛ لاشتمال هذا الكتاب على أبواب عديدة ومباحث متعددة تحتاج إلى تفصيل، ومسائل مختلفة تحتاج إلى بيان؛ ولذلك قال رحمه الله: كتاب الزكاة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه جمعين.