[صلاة الضحى]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وتسن صلاة الضحى].
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلى صلاة الضحى، وصلاة الضحى هي إحدى الصلوات التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بهذا الاسم من باب تسمية الشيء بزمانه الذي يقع فيه، كالأضحية سميت أضحية لأنها تذبح أضحى يوم النحر، فقالوا: صلاة الضحى من إضافة الشيء إلى زمانه، وهذه الصلاة جماهير السلف رحمة الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومنهم الأئمة الأربعة على أنها سنة، وقد ثبتت فيها الأحاديث الصحيحة، وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم ينكرون هذه الصلاة، ومنهم عبد الله بن عمر، فكان إذا رأى من يصليها في المسجد حصبه بالحصباء منكراً عليه وكأنه يراها بدعة، إلا أنه أجيب عن فعل ابن عمر هذا من وجهين: الوجه الأول: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحتمل أنه لم يبلغه النص بثبوت صلاة الضحى، فرأى كأنهم يفعلون أو يتكلفون فعلاً لا أصل له، وقد كان حريصاً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر على حسب علمه.
والوجه الثاني -وهو أقوى-: أن ابن عمر إنما أنكر على الناس قصدهم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف فعلها في المسجد، فحينئذٍ يكون كأنه يوافق في أصل المشروعية ولكن ينكر صفة الإيقاع، وقد يكون الشيء مشروعاً بأصله ولكنه غير مشروع بوصفه، ومن أمثلته هذا، فحمل إنكار ابن عمر رضي الله عنه على الناس أنهم تكلفوا المجيء إلى المسجد، مع أن صلاة الضحى تفعل في البيوت.
وقد ثبتت في صلاة الضحى أحاديث: منها ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يصبح على كل سلامى من الناس في كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، فبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، (فقوله: على كل سلامى) أي: مفصل، فهذه المفاصل الثلاثمائة والستون في الإنسان إذا أصبحت سليمة وأنت معافى بنعمة الله عز وجل ثبت أداء شكرها، فمن شكر هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك من سلامة أعضائك أن تفعل الخير، فتكثر من التسبيح والتحميد حتى تبلغ عدد هذه الأعضاء، فتسبح وتحمد وتكبر وتهلل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها أو تحمله عليها، حتى تبلغ من الصدقات والنوافل قدر هذه النعمة التي أنعم الله عليك بها وهي الثلاثمائة والستون مفصلاً، فكأنها صدقة الأعضاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى)، وفي هذا دليل على فضيلة هاتين الركعتين اللتين بلغتا شكر نعمة الله عز وجل على سلامة البدن كاملاً، وهذا يدل على فضل الصلاة.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى يقول: (يا ابن آدم! اكفني أربع ركعات أول النهار أكفك آخره)، أي: إن صليت أربع ركعات قربة ونافلة أول النهار كفيتك همّ يومك كله، سواء همّ دِين أم دنيا أم آخرة، فتكفاه إلى نهاية هذا اليوم بالأربع ركعات.
وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه يوم الفتح اغتسل صلوات الله وسلامه عليه، وسترته فاطمة، فدخلت عليه أم هانئ يوم الفتح وهو يغتسل، فلما انتهى من الغسل التحف عليه الصلاة والسلام بردائه فكبّر وصلى ثماني ركعات)، ومذهب طائفةٌ من السلف أن المراد بها ركعات الضحى، ولذلك تسن هذه الصلاة.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بثلاث، ومنها صلاة الضحى.
فصلاة الضحى سنة، والأحاديث فيها صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (تسن) أي: فعلها سنةز واختلف العلماء: هل الأفضل أن يداوم عليها، أو يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً؟ وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن الأفضل المداومة عليها، وكونه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه داوم عليها لا يمنع المداومة عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على فضلها بالسنة القولية، وقد كان يترك فعل الشيء وهو يحب أن يفعله خشية أن يفترض على الأمة، مع أن عدم النقل لا يدل على عدم الوجود، ولهذا الأفضل أن يداوم على ركعات الضحى.
قال رحمه الله تعالى: [وأقلها ركعتان وأكثرها ثمان].
هذه الركعات أقلها ركعتان، وأكثرها فيه للعلماء وجهان: فقيل: ثمان ركعات.
وقيل: اثنتا عشر ركعة.
وهو الأقوى.
أما كونها تصلى ركعتان فلما ثبت في حديث أبي هريرة: (ويجزئ عن ذلك ركعتا الضحى).
وأما كونها تصلى أربعاً فلما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرناه: (ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول اليوم أكفك آخره).
وأما كونها تصلى ست ركعات فلحديث أنس -وقد ذكره الترمذي في الشمائل-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ست ركعات).
وأما كونها تصلى ثماني ركعات فلما ثبت في الصحيح من حديث أم هانئ: (أنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفاطمة تستره بثوب وهو يغتسل، وفيه قالت: فالتحف، ثم صلى ثماني ركعات)، وحديث أم هانئ هذا فيه وجهان للعلماء: فبعض العلماء يقول: هي صلاة الضحى.
وكانت أم هانئ تفعل ذلك، وكان ابن عباس لا يرى الضحى، حتى دخل على أم هانئ فوجدها تصليها فاعتبر صلاة الضحى لما رآها تصلي هذه الثمان.
فمذهب طائفة أن هذه الصلاة صلاة الضحى.
وهناك وجه ثانٍ أن هذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح إنما هي صلاة الفتح، صلاها شكراً لله عز وجل أن فتح له مكة، وبلّغه هذا اليوم الذي أعزّ فيه جنده وأعلى فيه كلمته ونصر فيه عبده، فكانت شكراً لله على الفتح، ولذلك لما فتح سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى صلى فيه هذه الثمان الركعات، كانوا يستحبون لأمراء الجيوش والقادة أن يصلوها عند الفتح شكراً لله عز وجل على الفتح، فهذا أحد الوجهين فيها، وعلى القول بأنها صلاة الضحى تصبح صلاة الضحى ثماني ركعات.
وتصلى اثنتي عشرة ركعة، وفيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين كان من العابدين ... ) الحديث، وذكر فيه من صلى اثنتي عشرة ركعة.
ولذلك قالوا: أقل الضحى ركعتان وأكثر الضحى اثنتا عشرة ركعة.
وقيل: ثمان.
وقيل: يصلي ما شاء الله.
وفي هذا حديث أم المؤمنين عائشة: (أنها لما سُئِلت عن صلاة الضحى قالت: (كان يصلي أربعاً، ويزيد ما شاء الله)، فهذا يدل على أن فيها أدنى الكمال وأعلى الكمال.
فأفضل ما يكون أن تصلى اثنتي عشرة ركعة، وحملوا عليه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله في يومٍ ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة)، فحملوه على هذه الركعات التي تكون في صلاة الضحى.