للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم التداوي عند طبيب كافر]

وقوله: [وما قال طبيبان مسلمان عدلان].

يشترط في الطبيبين أن يكونا من أهل الخبرة، فلا نسأل عن مرض في البطن طبيبين مختصين بالرأس، أو بأمراض الأنف والحنجرة، فيشترط فيهما الخبرة.

وفي القديم ما كان هناك تخصص إلا في بعض الجرائح والوصائف، فقد كان هناك بعض التخصصات الطبية التي أشار إليها الإمام ابن القيم رحمه الله في الطب النبوي، والجرائح: هي التي تطبب بالجراحة، والوصائف: هي التي تطبب بالوصف، وهذا كله تخصص، والآن كأنه خرج هذا عن مجال الطب، من حيث جُعلت الصيدلة على حدة، وجعلت الكيمياء على حدة وجعلت مداواة الأبدان على حدة، فأي مرض نريد أن نحكم عليه فنرجع إلى أهل الاختصاص به، فإذا كان المرض مرض القلب -أعاذنا الله وإياكم- فنرجع إلى المتخصصين في القلب، فإذا شهد طبيبان عدلان مسلمان -كما ذكر المصنف- وحكما بكونه مخوفاً، فقالا: هذا المرض الغالب أنه يموت منه، فحينئذٍ يكون مرضاً مخوفاً.

وقوله: (مسلمان) هنا مسألة: وهي الإسلام في الطبيب، فبعض العلماء رحمهم الله يقول: لا تقبل في الأحكام والمسائل شهادة الطبيب الكافر؛ لأنه غير مأمون، فربما كذب؛ لأن الكافر قد كذب على الله بالشرك، وادعى أن لله ولداً، وأن الله ثالث ثلاثة فمن باب أولى أن يكذب على المخلوق، وقد وصف الله عز وجل من كان على الكفر بأنه عدوٌ مبين للمسلمين، فالعدو لا يصدق لعدوه.

ولكن هذا القول خالفه قولٌ آخر وهو: أن الطبيب الكافر إذا عرفت منه الأمانة والانضباط وعدم الخيانة فإنه يؤمن بقوله، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العمل بقول الكافر، والاستعانة بالكافر إذا عرف أنه ناصح، ويدل على ذلك حديث عائشة في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر عبد الله بن أريقط -وهو رجلٌ من بني الديل- هادياً خريتاً)، فـ عبد الله بن أريقط كان يعرف الطرقات، فكان دليلاً أخذه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، فلاحظ أنه كان بالإمكان لهذا الكافر، أن يذهب بهم إلى طريق معطش ويهكلان، وبالإمكان أن يذهب بهما إلى طريقٍ يكشف من قريش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف فيه أمانة، وعرف أنه محل ثقة فوثق به، وهذا دليل على أن الكافر إذا عرف أنه ثقة فيعمل بقوله.

كما أن عندنا حديثاً ما ذكره الأئمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وممن فصل في هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله في أحكام الاستعانة بالكافر في أحكام أهل الذمة، وابن تيمية في الفتاوى المصرية، وكذلك جاء في مواضع في مجموع الفتاوى أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، والإمام ابن القيم أشار إلى هذا حينما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين -بعد الله- بخزاعة على قريش، وكانت خزاعة على دين الشرك وعلى ملة الكفر، ولكنها كانت تحب النبي صلى الله عليه وسلم، وبينها وبين جد النبي صلى الله عليه وسلم قصي بعض الحلف: اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا فكانت بين خزاعة وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة، وهذه المودة كانت عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم يستقلها، فكانت خزاعة لا ترى قريشاً تدبر أمراً مكيدة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أخبرته صلى الله عليه وسلم، فهذا استعاذة من كافر، لكن عُرِف من خزاعة النصح، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك أيضاً مما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألتنا كان يأمر الصحابة أن يستطبوا الحارث بن كلدة، وكان كافراً، ومع ذلك كان يأمرهم بالتداوي عنده والعمل بما يقوله لهم، فهذا كله يدل على جواز الاستعانة بالطبيب الكافر والعمل بقوله.

لكن هناك من أئمة السلف وهو مذهب الإمام أحمد رحمةُ الله عليه، فقد كان للإمام أحمد طبيب يهودي، وكان يعمل بمشورة هذا اليهودي ويستطبه، ولكن لا يقبل قوله في الصلاة والعبادات كالصوم، فلو قال له: لا تصم، فما يقبل قوله حتى يتأكد من طبيب مسلم، ولو قال له مثلاً: لا تركع أو لا تسجد، فإنه لا يثق به في أمور الديانة.

ومن هنا فرق العلماء في قول الطبيب الكافر بين العبادة وأمور الديانة ومصلحة البدن، فيمكن أن تقبل لكن إذا قال لك: سجودك يؤثر على البصر، أو يؤثر على العملية في الظهر، فحينئذٍ عليه أن يستوثق بطبيب مسلم يمكن الرجوع إليه، لكن إذا عمت البلوى ولم يجد الإنسان إلا طبيباً كافراً فإنه يعمل بخيرهم، وهكذا بخير الكفار، فالكفار فيهم من هو خير من الآخر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن بالحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد)، وكان ملك الحبشة على دين الكفر، فامتدحه بما فيه من خير؛ لأنه لا يظلم الناس؛ ومثل هذه الأشياء قد توجد في الأطباء الكفار، فمن عرف بالنصح عمل بقوله واستثبت.

أما لو فسد الزمان ولم يوجد طبيب عادل، فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن فرحون في تبصرة الحكام، والإمام ابن القيم رحمهم الله وغيرهم من الأئمة: أنه إذا تعذر وجود العدل عُمِل بشهادة أمثل الفساق، فإذا لم يوجد وتعذر وجود الطبيب العدل، فانظر إلى أحسن الأطباء الموجودين في نظرك والذي يمكن أن تؤثر عليه وتناشده أن ينصح لك، فتعمل بقوله وتثق بخبره.

<<  <  ج:
ص:  >  >>