[الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء]
قال رحمه الله: [الثالث: قطع الحلقوم والمريء]: الشرط الثالث: قطع الحلقوم والمريء.
الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام.
وهناك أربعة أشياء ينتبه لها: الحلقوم: مجرى النفس.
المريء: مجرى الطعام.
ثم الجانب الأيمن والأيسر من رقبة البهيمة فيها الودجان -العرقان- وبقطعهما يكون زهوق الروح.
وقد أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم، والمريء، والودجين، أنها تحل البهيمة، وهناك من العلماء من اشترط ثلاثة من أربعة: الحلقوم، والمريء، وأحد الودجين، ومنهم من اشترط ثلاثة من أربعة دون تعيين، أن يأخذ ثلاثة من هذه الأربعة دون أن يحدد، ومنهم من اشترط الحلقوم والمريء، كما درج عليه المصنف، وبهما يتحقق الزهوق والإنهار للدم، فهذا هو القدر الذي اقتصر عليه.
[فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح] الذبح يكون تحت الجوزة، أو الغلصمة كما تسمى، فإذا كان من تحتها أو عليها نفسها وفصلها، فلا إشكال، لكن لو أنه ارتفع -من فوقها- فقطع من هذا الموضع؛ فالجمهور على صحة ذلك، والمالكية عندهم قول بالمنع، والصحيح مذهب الجمهور لعموم الخبر.
قال رحمه الله: [وذكاة ما عُجز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر ونحوها: بجرحه في أي موضع كان من بدنه] بعد أن بين رحمه الله ذكاة المقدور عليه، شرع في حكم ذكاة الصيد، وذكاة المعجوز عنه، فقال رحمه الله: [وذكاة ما عجز عنه من الصيد]: هذا النوع الأول.
[والنعم المتوحشة]: سيأتي في الصيد بيان أحكامه.
[وما يشرد] فمثلاً: لو أن شاة شردت، وهو في بر، وغلب على ظنه أنه لا يستطيع أن يمسكها، وأنها ستنفق في مقطعة، أو نحو ذلك، فإنه يأخذ السلاح ويرميها في أي موضع.
رأى الشاة فرت منه إلى الشارع، وهو جازم بأنها ستضربها السيارة وتموت، وإذا ضربتها السيارة فإنها حينئذ تموت بالصدم، وهذا أشبه بالارتطام وبالتردية، وحينئذ أراد أن يدرك ذكاتها، فقتلها قبل أن تصدمها السيارة.
أو جاءت على بئر، أو على هاوية، أو على شفير جبل، وهو يعلم أنها ستموت، فحينئذ لو ثور السلاح وقتلها، حلت، وتكون ذكاتها.
والدليل على ذلك: حديث أبي رافع رضي الله عنه وأرضاه: أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير وشرد، فأهوى رجل بسهمه فعقره وقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه الحيوانات أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فاصنعوا به هكذا) فدل على أن المستأنس إذا توحش يعامل معاملة الصيد، وهذا ما عناه المصنف رحمه الله، ولم يخالف في هذه المسألة إلا الإمام مالك، فالجمهور على أنه يقتل في أي موضع، ويرمى في أي موضع، وأنه يحل بهذه التذكية، واستدلوا بحديث أبي رافع، ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع، ما قال: أخطأ مالك، أو: هذه من أوهام مالك ومن شذوذه، لا.
بل قال: لعل مالكاً هكذا وإلا فلا، هكذا يطيب العالم، ويطيب قوله، ويُطيّب بما يكون منه من حسن المعذرة لأهل العلم رحمة الله عليهم، وقد ضرب أئمة الإسلام المثل السامي في حسن الأدب رحمهم الله وفي رعاية الحرمة، وفي حفظ الحق لذي الحق، مع أن الإمام مالكاً يقول: إذا وجدتم قولي يخالف قول الرسول فاضربوا بقولي عرض الحائط، والظن به: أنه لو بلغته السنة لعمل بها، فيقول: لعل مالكاً لم يبلغه حديث أبي رافع.
[والواقعة في بئر، ونحوها]: لو وقعت شاة في بئر، فإنها ستموت بأحد أمرين: إما أن ترتطم بأرض البئر إذا لم يكن فيه ماء، وحينئذ تكون متردية، وإما أن تموت بخنق الماء إذا كان هناك ماء في البئر، فحينئذ يعاجلها بضربها في أي موضع، ويزهق روحها قبل وصولها إلى الماء.
يقول رحمه الله: [بجرحه في أي موضع كان من بدنه، إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه، فلا يباح].
قوله: [إلا -استثناء- أن يكون رأسه في الماء]: هذه مسألة اجتماع الحاضر والمبيح، فإنه إذا رمى الشاة، أو الطير، أو البط، أو الإوز وهو على النهر، وانغمس، وشُك: هل مات بالخنق، أو مات بالذكاة؟ فخذها قاعدة: الأصل في الصيد-يعني في الشيء الذي لا تمسكه، ولا تذكيه الذكاة الشرعية- أنه ميتة حتى تحله الذكاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (فإن أكل-يعني الكلب من الصيد- فلا تأكل، فإني أخاف -لم يجزم- أن يكون إنما أمسك لنفسه) لم يجزم بالتحريم، والأصل: حل الأشياء، لكنه غلّب التحريم، ومن هنا استنتج العلماء قاعدة: الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل.
فالصيد بضرب البهيمة في أي موضع رخصة، وتوسعة من الله، لكن لما شككنا أنها أزهقت النفس، أو أزهقها الماء بالخنق، قدمنا الحاضر على المبيح، ومُنع من أكل الطير، وإذا رأى الشاة ساقطة من علو ورماها، وغلب على ظنه أن المرمى يزهق نفسها قبل الوصول إلى الأرض، أو تكون مستنفذة الروح، حل، لكن لو رماها -مثلاً- في رجلها، وارتطمت، وقوي وغلب على الظن أن موتها كان بقوة الارتطام، فحينئذ لا تحل له، وهذا معنى قوله: إلا أن يرى رأسه في الماء، وهذا فيه أثر عنه عليه الصلاة والسلام.