[وقت وقوع الطلاق المعلق بحصول أكثر من صفة]
قال -رحمه الله تعالى-: [وإن قمت فقعدت، أو ثم قعدت، أو إن قعدت إذا قمت، أو إن قعدت إن قمت، فأنت طالق، لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد] هذه من سمات كتب الفقه، قد تجد فيها أمثلة غريبة، لكنها مركبة تركيباً بديعاً، ومرتبة ترتيباً جميلاً، فرحم الله الفقهاء، الآن يتكلم عن شيء اسمه الشرط، فقد تأتي بالشرط على صفة واحدة، وقد تجمع الشرط مركباً على صفتين، وقد تجمعه على ثلاث صفات، وهذه كلها موجودة في لسان العرب، ووردت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنبينه، فما معنى قول المصنف: إن قمت وقعدت، إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت إلخ؟ إن جئت تتكلم عن صيغة الشرط فإنك تتكلم بطريقتين: الطريقة الأولى: طريقة الإفراد: أن يأتي بشرط واحد مفرد، وهذه الطريقة، إما بصيغة الإثبات نحو: إن دخلت الدار؛ فأنت طالق، هذا شرط مفرد، فننظر فقط للدخول، وإما بصيغة النفي نحو: إن لم تدخلي فأنت طالق، إن لم تسمعي كلامي فأنت طالق، هذا بصيغة النفي وفيه شرط مفرد، وننظر فقط لانتفاء الشيء الذي علق الطلاق عليه.
الطريقة الثانية: طريقة الجمع: أن يجمع فيه بين شيئين، على سبيل التلميح، فيأتي بصفتين، ومراده أي واحدة منهما وجدت؛ فإن الطلاق يقع نحو: إن قمت أو قعدت، فأو للتنويع، وقد يأتي بشيئين فيجمعهما معاً نحو: إن قمت وقعدت، وقد يجعل الشيئين مرتباً أحدهما على الآخر بالفاء أو بثم.
فالخلاصة: أن صيغة الشرط المفردة إما أن تكون إثباتاً، أو تكون نفياً، والأدوات تختلف، وأحوالها تختلف، فـ (إن) لا تختص بالزمان، و (إذا، ومتى، وأي وقت، وكلما) يقع فيها الطلاق بعدها مباشرة في صيغة النفي إذا لم يطلق، وقد يجمع أكثر من صفتين، فقد يجمع على سبيل وجود الكل، كأن يقول: إن قمت وقعدت، ومراده: أن يقع القيام والقعود، أو يقول: إن زرت الوالد والوالدة، فمراده أن تقع الزيارة للوالد والوالدة، فيقصد: مجموع الأمرين معاً، وقد يقصد وجود أحدهما: إن قمت أو قعدت، فإذا قصد وجود أحدهما؛ فإنها تطلق بمجرد وجوده، وإذا قصد مجموع الشيئين مع بعضهما فقد يرتب أحدهما على الآخر وقد لا يرتب، فإن قال: إن أكلت وشربت، فلو أنها شربت أولاً، ثم أكلت، فالطلاق يقع، ولو أكلت أولاً، ثم شربت، فالطلاق يقع؛ لأن المراد: مجموع الأمرين، ولم يقصد ترتيباً؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب من حيث الأصل، وإن أراد الترتيب فقال: إن قمت، ثم قعدت، فلا ننظر إلى القعود إلا إذا وجد قبله قيام، فالقعود شرطه أن يكون قبله قيام، فلو كانت قاعدة فإنها لا تطلق حتى تقوم ثم تقعد، والحاصل: إن كان مراده مجموع الشيئين فلا إشكال، وإن كان مراده وقوع أحدهما مرتباً على الآخر؛ فالحكم أننا لا نوقع الطلاق إلا إذا وقع الثاني مرتباً على الأول، فهذه مقيدة بالصيغ، ولا تهتم الألفاظ، فالعلماء وضعوا هذه المتون بدقة، ومرادهم التفصيل في الحكم، فقد تأتي ألفاظ جديدة تتناسب مع العرف، فتقول تارة: لا يقع الطلاق إلا إذا وقع مجموع الأمرين، وتارة تقول: لا يقع الطلاق إلا إذا وقع الثاني مرتباً على الأول، وتارة تقول: يقع الطلاق إن وقع أحد الشيئين، أو إحدى الصفتين، ولا أشترط سبق أحدهما على الآخر.
قوله: (وإن قمت فقعدت) القعود مرتب على القيام؛ لأن الفاء تقتضي العطف مع الترتيب، لكنها تدل على الولاء والمباشرة، ولذلك يقول بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا) قالوا: يحرم أن يتأخر عن الإمام بالتكبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر فكبروا) ولم يقل: إذا كبر كبروا، إنما قال: (إذا كبر فكبروا)، وهذا على صيغة الشرط والعطف بالفاء، فالفاء هنا: تقتضي وجود الشيء مباشرة، تقول: جاء محمد فعلي، أي: أن علياً دخل وراء محمد مباشرة، فالفاء تقتضي الترتيب مع الولاء، ولذلك يقول بعض العلماء: لما قال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] رأوا فرعون قد أتاهم، والبحر أمامهم، وإذا بفرعون قد جاءهم بخيله ورجله وعدده وعدته، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا} [الشعراء:٦٢ - ٦٣]، انظر إلى بلاغة القرآن! (فَأَوْحَيْنَا)، حتى كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يقول: والله ما انتهى موسى من نون (سيهدين) حتى جاء الوحي: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:٦٣]، وهذا من كرمه سبحانه، أنه ما أيقن أحد به عند الكرب إلا فرج عنه فقال سبحانه: (فأوحينا) ولم يقل: وأوحينا، إشارة إلى أن الوحي نزل عليه مباشرة بعد يقينه بالله سبحانه وتعالى.
فالمقصود: أن الفاء تقتضي العطف مع الترتيب المباشر، فإذا قال لها: إن قمت فقعدت، فهذا يقتضي أن يكون القيام أولاً، ثم القعود بعده، فيشترط سبقُ القيام للقعود.
قوله: (ثم قعدتِ) المراد هنا فقط الترتيب، والفرق بين (الفاء) و (ثم) أن الفاء للولاء والمباشرة، و (ثم) تقتضي التراخي والتأخير، تقول: جاء محمد فعلي، أي: جاء علي بعد محمد مباشرة، حتى كأنهما ملتصقين ببعضهما في المجيء، ولكن إذا قلت: جاء محمد ثم علي، فهذا يقتضي أن هناك فاصلاً ووقتاً وزماناً فصل بين مجيء محمد ومجيء علي.
فإن قال لها: إن قمتِ فقعدتِ، إن قمتِ ثم قعدتِ، تشترك الصيغتان في كون الثاني مرتباً على الأول، وهذا هو الذي يريده المصنف؛ لكن مسألة الترتيب بسرعة أو على الولاء، هذه مسألة أخرى تستفاد من اللفظ.
قوله: (أو إن قعدتِ إذا قمتِ) هذا فيه دخول الشرط على الشرط، ودخول الشرط على الشرط يصير المقدم مؤخراً، والمؤخر مقدماً، قلت لها: إن قمت إن قعدت، فحينئذ يكون القعود سابقاً للقيام، فالشرط الثاني يصير أولاً، والأول يصير بعده، كأنك اشترطت في الشرط، ولذلك قالوا: اعتراض جملة الشرط على الشرط يصير المتقدم متأخراً، والمتأخر مقدماً، فالصيغ: إن قمت فقعدت، إن قمت ثم قعدت، إن قمت إن قعدت، لابد أن يسبق فيها القيام القعود، وأما صيغة: إن قعدت إن قمت فمعناها: إن قمت أولاً، ثم قعدت بعد ذلك، والدليل على ذلك: قوله تعالى: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:٣٤] فجعل المتأخر مقدماً، فعندنا جملة: (لا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي)، رُتبت على قوله: (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ)، ورتبت على قوله: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) وأصل التقدير: إن كان الله يريد أن يغويكم، وأردت أن أنصح لكم، فلا ينفعكم نصحي، فجعل المتقدم مؤخراً، وجعل المؤخر مقدماً، وهذا معروف في لغة العرب، فإذا قال لها: إن قمت إن قعدت، فمعناه: أن يسبق القعود القيام، كما فهمنا من لغة القرآن، فيقدم المؤخر ويؤخر المقدم في دخول واعتراض جملة الشرط على الشرط، سواء كانت واحدة، أو أكثر من واحدة، فحينئذ نقول بالترتيب، كما ورد في هذه الآية الكريمة: (لا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي) أي: أنا أريد أن أنصحكم، فجاء بغاية النصح، وبين براءته من حوله وقوته، فقال: (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) فإذا كان الله عز وجل لا يريد هدايتهم، فلا ينفعهم النصح، حتى ولو نصح لهم، فكونه يقدم المؤخر، ويؤخر المقدم؛ يدل على أن اعتراض جملة الشرط على الشرط يخل بالترتيب.
قوله: (حتى تقوم ثم تقعد) فالجمل المتقدمة كلها يراد بها الترتيب.
أولاً: إن قمت فقعدت، لابد أن يقع القيام أولاً، ثم القعود، فلو أنه قال لها: إن قمت فقعدت فأنت طالق، وكانت حاملاً، فقامت، ثم قعدت، ثم ولدت، فحينئذ خرجت من عصمته؛ لأنه وقع الطلاق بعد قعودها، ثم وقع بعد الطلاق وضع الحمل، فخرجت من عدتها، وأصبحت أجنبية، فإن قال لها: إن قمت فقعدت فأنت طالق، فقامت، ثم ولدت، ثم قعدت، فإنه في هذه الحالة لا يقع الطلاق إلا بعد قعودها، وعلى هذا يتأقت الطلاق بوجود الترتيب، وهذا مراد الفقهاء؛ لأن الشريعة شريعة كاملة، لا يقول أحد: إن هذه تعقيدات، فإن هذه أمور تتوقف على ألفاظ شرعية، ولن تجد شريعة على وجه الأرض أعمق من هذه الشريعة فقد أعطت كل مكلف حدود ألفاظه، ومدلولات ألفاظه، والصيغ التي يتكلم بها في لسانه، وفي عرفه، وهذا غاية العدل والتمام والكمال، فهذا كله مبني على إعطاء كل شيء حقه وقدره، فهو إذا قال: إن قمت فقعدت، فهي صيغة تقتضي الترتيب، فلا يقع الطلاق بدون وجود الترتيب المشترط فيها، وإن قال: إن قمت ثم قعدت، فلا يقع الطلاق إلا بوقوع الصفتين مرتباً الثاني منهما على الأول على مقتضى لسان العرب ولغتهم، وقس على هذا بقية الصفات.
قال المصنف رحمه الله: [وبالواو تطلق بوجودهما ولو غير مرتبين] ولو قال لها: إن قمت وقعدت فأنت طالق، فقامت ثم قعدت، أو قعدت ثم قامت، وقع الطلاق، فالفرق بين هذه الحالة والحالات الماضية: أنه قال لها في الحالات الماضية: إن قمت ثم قعدت، فلا نعتد بالقعود إلا إذا سبقه قيام، وعلى هذا لا يقع الطلاق إلا إذا وقع قعود بعد قيام، وأما في هذه الحالة فالعطف بالواو: إن قمت وقعدت فلو قعدت، ثم قامت أو قامت ثم قعدت، فإنه يقع الطلاق بمجموع الأمرين بغض النظر عن كونهما مرتبين أو لا.
قال المصنف رحمه الله: [وبأو بوجود أحدهما] (أو) تقتضي التنويع؛ تقول: خذ هذا أو هذا، بمعنى: أنك مباح لك أن تأخذ هذا أو هذا، ولا يباح لك أن تجمع بينهما؛ لأن (أو) تقتضي التنويع، قال الله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:٨٩] فهذا القرآن يدل دلالة واضحة على أن المراد وقوع أحد هذه الأشياء التي عطفت بأو، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:١٩٦] فأي واحد من هذه الأشياء يجزئ؛ للعطف بأو، فإن قال الرجل لزوجته: إن قمت أو قعدت فأنت طالق، فإن وقع قيام، أو وق