[حكم أجرة الطبيب إذا لم يشف المريض]
السؤال
لو أن رجلاً دفع مبلغاً للطبيب؛ وذلك من أجل العلاج للمرض، فإذا لم يُشف المريض، فهل يُلزم الطبيب برد المبلغ للمريض أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل من حيث الأصل، فإن المهمات والأعمال الطبية تنقسم إلى أقسام: فهناك مهمات تُطلَب من الطبيب، أو من مساعد الطبيب، أو من الممرض، أو مَن يتوكَّل عنهم، وهي إدارة المستشفى، فتطلب هذه المهمات بغض النظر عما تتضمنه، مثلاً كالتحاليل، وتصاوير الأشعة، ونحوها مِن المهمات الظاهرة التي يقوم بها الطبيب والممرض، ونحوهم من مساعدي الأطباء، فهؤلاء يقومون بهذه المهمة على وِفق ما طُلِب منهم، فهذه لا دخل لها بمسألة الشفاء وعدمه.
لكن الطبيب إذا دخل عليه المريض، وقال له: افحصني، فقام بفحصه، وتعاطى أسباب الفحص الواجبة عليه طبياً، وقام بها على وفق الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، وأدّاها على وجهها، ثم بعد ذلك شخّص المرض، فإنه إن استأجره من أجل التشخيص، وأصاب في تشخيصه؛ كان المال من حقه، وأما إذا كان أخطأ في التشخيص، فإنه يتحمل مسئولية الخطأ، كأن خرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، أو خمَّن، أو ما إلى ذلك.
مثال ذلك: هناك أنواع من المرض لا يمكن للطبيب أن يحكُم بوجودها إلا بعد أن يستعين -بعد الله عز وجل-بالفحص بالوسائل المتبعة عند المختصين، وهناك نوعان من العوارض: العوارض الظاهرة، والعوارض الباطنة، فيمكن أن يشخِّص أنها قرحة بالاحتمال، فإذا جاءه شخص وقال: أشعر بألم في هذا المكان، وأشعر بحموضة، وأشعر بكذا وكذا، وجاء بالعلامات التي تسمى: بالسريرية؛ والفحص السريري هو الذي يكون في البداية، فهذا يمكن أن يكون احتمالياً، فيحتمل أن تكون قرحة أو غيرها، فقال: أنت مصاب بالقرحة، وشخَّص على أنه مصاب بالقرحة، مع أن بإمكانه التصوير بالأشعة؛ لكي يتحقق هل هو مريض بالقرحة أم لا؟ فأعطاه الدواء على أنه مريض بالقرحة دون أن يتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ من إحالته إلى التصوير بالأشعة، أو أن يحلل له دماً أو نحو ذلك، للوصول إلى معرفة المرض الذي لا يُتوصَّل إلى الجزم به أو غلبة الظن إلا عن طريق هذه الوسائل، فإن قصَّر على هذا الوجه، وشخَّص بالطريقة الأولى، التي هي التمهيدية، أو الفحص السريري، أو الفحص المبدئي، فإنه حينئذٍ إذا أخطأ تحمّل مسئولية الخطأ، وسقط استحقاقه في الأجر؛ لأن هذا الفحص الذي قام به ليس على الوجه المتَّبَع، وليس على أصولٍ متَّبعة.
أما لو أنه قام بتعاطي الأسباب، وبذل جهده، وفعلاً وُجِدت الأمارات والدلائل، وبنى عليها، فلا إشكال، وإن كانت الدلائل محتمِلة فخالف أصول المهنة، كأن تأتي صورة ليست بواضحة، فالأصول المتَّبعة عند أهل المهنة: أنه إذا جاء التصوير بالأشعة مثلاً غير واضح؛ فإنه يطَالب بإعادته، فلم يعد التصوير، وقال: هناك احتمال في الصورة أن عندك مرض كذا، ثم أعطاه دواءً بناء عليه، فإنه يتحمل المسئولية إذا تبيّن أنه ليس عنده هذا المرض.
إذاً: مدار المسألة: أنه إذا بذل ما يجب عليه بذله، واتبع الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص، ولم يجازف بالمريض، ولم يعرِّضه للخطر، فحينئذٍ يكون من حقه أن يأخذ أجرة مثله، أو ما اتُّفِق عليه.
لكن لو قلنا: إنه أخطأ وقصَّر، وخرج عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص؛ فإنه يكون هناك أمران: أولاً: أنه قام بغير العمل الذي ينبغي القيام به؛ لأن المريض ائتمنه فيما بينه وبين الله، وحمّله المسئولية أن يتقي الله عز وجل فيه فيعامله معاملة المثل، فإن خرج عن هذه الأمانة، فقد خرج عن مقتضى العقد بينهما، ومن هنا لا يستحق الأجرة، بل وتترتب عليه مسئولية الدنيا بمحاسبته ومعاقبته ومطالبته بضمان ما ترتّب على خطئه، وتترتب عليه مسئولية الآخرة إذا لم يتب الله عز وجل عليه، فيعاقَب عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
وهناك شيء قريب من الإجارة الطبية، وهي مسألة القراءة بالقرآن، فبعض العلماء يجعلها من باب الجُعل لا من باب الإجارة، وهناك فرق بين الجعل والإجارة؛ لأن الحديث في الصحيح: (اجعلوا لنا جعلاً)، فإذا قلنا: إن القراءة بالقرآن على المرضى والمصروعين والممسوسين جُعل؛ فيكون الأمر فيها أشد، فإذا قرأ القارئ على المريض، فإنه لا يستحق المال إلا إذا شُفي؛ لأن النص الذي ورد باستحقاق أخذ الأجرة على القراءة بالشفاء، وإنما أخذ الصحابة رضوان الله عليهم الأجر بعد الشفاء.
ومن هنا فكون بعض القراء يفتحون عيادات، فتجدهم يأخذون مبالغ كالرسوم قبل أن يقرءوا على المرضى، فهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه لا يتأتى فيه الجعل وإنما هو إجارة، وليس هذا من ضرب الإجارة، وإنما تكون القراءة هبة من الله سبحانه وتعالى: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) لمن قرأه فأعطاه حقه، وجعل الله عز وجل ثمرة هذا التوجه إليه سبحانه وتعالى بقراءة القرآن الإخلاص، فإنه يجعل له أجر الدنيا والآخرة، فيجعل له عاجل البشرى من الدنيا إذا أُعطي شيئاً أن يأخذه للسُّنة، وإن أحب أن لا يأخذ وأن يختار أجر الآخرة: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:٤٧]، فهذا أكمل وأعظم أجراً، وهو أوجب لنزول البركة له إلى أن يقبضه الله عز وجل، فقلّ أن تجد قارئاً لا يأخذ من الناس إلا وتأذَّن الله ببقاء البركة والخير في قراءته.
فكون القراء يفتحون العيادات، ويكون هناك أناس يقبضون أجرة معيّنة، ويجلس معهم الجلسة الأولى لكي يبين أنه ممسوس أو مسحور أو كذا، فهذا أمر فيه توسُّع، ويحتاج إلى إعادة نظر ودراسة شرعية، يحصل من لقائها الحكم بأن هذا عمل شرعي؛ لأنها تصبح أشبه بالتكسب الدنيوي المحض.
ومسألة: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) إنما هو في جُعل، والجُعل ثابت في النص، قال: (اجعلوا لنا جُعلاً)، ومن قواعد الشريعة أن ما كان من باب الجعل فلا يستحق إلا بعد تمام الشفاء الكامل؛ لأن الجُعل يخالف الإجارة، وسيأتينا هذا، وهذا مقرر عند العلماء: أن الإجارة تُستحق شيئاً فشيئاً، فلو قام بنصف العمل، فإنه يستحق نصف الأجرة، لكن في الجعل لا يستحق شيئاً حتى يأتي بالعمل كاملاً، فإن كان قد جعل له جُعلاً على أن يقرأ على مريضه فيُشفى، فلا يستحق إلا إذا شفي المريض.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يُلهمنا الصواب في القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.