[ضوابط وأصول عامة في العقود]
السؤال
ما الأمور التي ينبغي أن يتعاطاها من أراد الشراكة؟ وما صفات الشريك المسلم؟
الجواب
هذا السؤال يتعلق بباب الشركة كله؛ لكن هناك ضوابط وأصول عامة ينبغي التنبيه عليها في العقود مطلقاً، فمن أراد أن يشارك، أو أراد أن يبيع، أو أراد أن يتعامل في الإجارات أو العقارات فينبغي أن يسأل، وعليه أمور يجب أن يتعلمها: أولاً: الرجوع إلى العلماء: فقد أجمع العلماء على أنه يجب عليه الرجوع إلى العلماء، وأنه لا يجوز لأحد يتعامل بالشركات أو بالبيوع أن يأتي ويدخل إلى السوق ويفعل ما عنَّ له دون أن يسأل: هل هو حرام أو لا؟ ولا يجوز له أن يقدم على أي عقد حتى يسأل أهل العلم، وإلى الله المشتكى، حينما أصبحت الأمور تُعْرَف بالعُرْف، فالشيء المعروف هو الحلال، وحينئذ قَلَّ أن تجد من يسأل العالم، وقَلَّ أن تجد من يستشير أهل العلم أو يرجع إلى أهل العلم.
ووالله إن القلوب لتتقرح حينما تجد التاجر إذا أراد أن يقيم أي صفقة أو أي عمل فإنه يبحث: مَن هو الخبير؟ ومَن الذي عنده معرفة؟ ومَن هو الذي يستشار؟ فأخذ يقلب في المستشارين ومَن يسألهم، ولا يمكن أن يجول بخاطره أن يسأل عالماً، أو يبحث عن حكم هذا؛ أحَلَّهُ اللهُ أو حَرَّمَه؟ وهذا من غربة الإسلام: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).
وكان العلماء يُقَدَّرون من الناس، وكان الرجل -ووالله إني أعرف أناساً في المدينة من كبار السن وأهل الفضل- لا يمكن أن يتعامل بأي معاملة في دكانه أو محله حتى يسأل العلماء، حتى إنه بعد وفاة الوالد رحمة الله عليه كنت أجالس البعض فيقول: سألت الشيخ عن مسألة كذا، وتكون المسألة غريبة، فوالله إنا كنا نستفيدها من العوام الذين ليس لهم إلمام بدقائق المسائل؛ لكنه سأل عن هذه المسألة العالِمَ فأفتاه فيها، فانتفع طلاب العلم بفتواه.
وكانوا لا يقدمون ولا يؤخرون إلا بسؤال العلماء؛ ولذلك وضع الله لهم البركة والخير والرزق، حتى إن الرجل تجده في تجارته منذ أربعين أو خمسين سنة ناعم البال، مطمئن النفس، ولا تجد عنده القلق ولا الهوس ولا التعب ولا الاكتئاب ولا المصائب؛ لأنه لم يعرض عن الله، وكانت خطواته في تجارته مدروسةً بحكمة، مقرونة بسئوال أهل العلم والبصيرة، فبارك الله عمله وماله، هذا غير ما يكون منه من الصدقات والإحسان.
أما اليوم فقَلَّ أن تجد من يسأل عالماً، والبعض إذا أراد أن يسأل العلماء تَتَبَّعَ مَن يسأل، وعَرَف مَن الذي يرخِّص، ومَن الذي يشدِّد، ومَن الذي يكون بين بين.
فإذا اشتهى أمراً مخفَّفاً سأل عمَن يخفف له، حتى يجعله بينه وبين ربه، ليحمل -واليعاذ بالله- وزره يوم لقاء الله، والله لا يخطئ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما للسائل لما سأله: (إن الله لا يخادع).
فالله مطلع على الضمائر والسرائر.
فتجده لا يحسن اختيار العالِمَ الذي يسأله، أما إذا أراد أن يبحث عن مستشار في ذوي الخبرة يستشيره في أمور المال أخذ يقلب في سيرته حتى يعرف أنه أهل للسؤال، لكن يتهاون في سؤال العلماء، فقد يأخذ الفتوى من كاتب عنده في تجارته؛ لأن الدين عنده رخيص.
والشخص إذا لم يكن عنده خوف من الله سبحانه وتعالى ومراقبة واستشعار أن هذا المال سيُسأل عنه قليله وكثيره، وأنه لن تزول قدماه بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- حتى يُسأل: هل أحل الله له هذا المال الذي أخذ، أو حرمه عليه؟ فإذا أصبح يستشعر أنه مسئول بين يدي الله، لربما وجدت العالم يفتيه بالرخصة فلا يقبلها خوفاً من الله سبحانه وتعالى.
والعكس بالعكس، فتجده إذا أراد السؤال عن الأمور الدنيوية لا يسأل أحداً من أهل العلم، لا يسأل إلا أهل الثقة، ولا يستشير إلا من يؤتمن، ويتعب في السؤال، ولربما يسافر إلى أماكن بعيدة، كل ذلك من أجل أن يكون على بينة في تجارته، هذا لحظ الدنيا، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦ - ١٧] وإذا جاء ليسأل ربما دعا العالِمَ أن يأتيه، وهذه من العزة التي أصبح يعتز بها الناس على العلماء، وقَلَّ أن تجد إنساناً كبيراً أو عظيماً يرضى لنفسه أن يقف على باب العالِم أو يسأله، وأغرب من هذا أنه يطلبه أن يأتيه مع أنه هو صاحب الحاجة، ولا يجد من نفسه أن يذهب ويسأل، وإذا أراد أن يسأل عالماً بعث من يسأل، وقال لعامل من عماله، أو عامل في مكتبه، ولربما يكون من أبسط الناس: اذهب واسأل لي فلاناً، ولا تقل له أني أرسلتك، فكل ذلك اعتزاز على العالم.
وهذا هو الواقع المر الذي نعيشه، ولما حُرِم الناسُ تقدير العلماء نزع الله البركة من حياتهم، فأصبحوا في الهم والقلق والاكتئاب، والمصائب والحوادث، والنكسات والفجائع، لما أعرضوا عن الله، فليس بين الناس وبين الله حسب ولا نسب، وإنما بينهم هذا الدين، وصفوة الله من خلقه لهذا الدين العلماءُ.
فإذا أردت أن ترى عزة الإنسان فانظر إليه مع أهل العلم، فإذا نظر إلى أهل العلم أنهم مؤتَمَنون على دين الله فقدَّرهم وأجلَّهم رفع الله شأنه، حتى قيل في صلاح الدين الأيوبي، وكم من أناس كانوا لهم فضل من قواد المسلمين ممن كان لهم عظيم البلاء؛ لكن هذا القائد جعل الله له من المحبة والقبول ما الله به عليم، فلو قرأت في سيرته لوجدت أن مجلسه لا يكون إلا بالعلماء، وكان لا يجلس المجلس ولا يبرم الأمر حتى يكون في مجلسه ما لا يقل عن عشرين عالماً يسأله.
ومن عرف فضلهم فإن الله عزَّ وجلَّ يتأذن له بالمحبة والقبول، واقرأ في سير الناس فلن تجد تاجراً وضع تجارته بين يدي العلماء، فأصبح يتقدم إذا قيل له: تقدم، ويتأخر إذا قيل له: أحجم وتأخر، إلا بارك الله في رزقة، وبارك له في تجارته، ووضع الله له من المحبة بين الناس والتقدير على قدر ما جعل الله في قلبه من المحبة لأهل العلم.
وهذه سنة من الله، من عرفها فقد عرفها، ومن لم يعرفها فسيعرفها.
والعجب: أن بعضهم إذا ذهب إلى العالم ليسأله، أو إذا جلس في مجلس العالم يسأل تجده يعتز بنفسه أن يُشْعِر العالم أنه محتاج لعلمه، وهذا مَرَّ ورأيناه، وإن كان الواجب عليك كطالب علم لَمَّا ترى مثل هذه النوعية تزجره وتُشْعِره أنه يسأل ليعلم وليس أهلاً لأن يناقِش أو يعترض، فتجد البعض ممن يسأل -وهذا مَرَّ بنا كثيراً- يقول لك: عندي مسألة قد سمعتُ من يحرمها؛ ولكن في رأيي ليس فيها شيء ويعطيك الجواب قبل أن يسأل، ويعطيك الخلاصة قبل أن يستشكل ويستفتي، ولم يعد هناك تقدير لأهل العلم، ولا شعور بالحاجة إلى أهل العلم.
وموسى عليه السلام يقول: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:٦٦]، هل أتبعك؟ العلم لا يؤتى بالتكبر، وأهل العلم إذا تعالينا عليهم تعاظمنا على الدين؛ لأن العالم صاحب رسالة وأمانة، يحمل في قلبه كتاب الله وفي صدره سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويحمل هذا النور والعلم، وكم من إنسان يكون من أذكى خلق الله ولا يستطيع أن يحفظ آية، ويقول: أتمنى حفظ القرآن ولا يُبَلَّغ، فمَن الذي وفق ذاك للحفظ وفتح عليه، وجعل صدره آيات بينات من العلم، وصرفه عن هذا مع أنه أذكى من ذاك العالِم؟ وإن الله يختار من يشاء.
فمثل هؤلاء إذا أصبحنا نتعاظم ونتعالى عليهم حرمنا البركة، وإذا جاء الغني والتاجر وصاحب الشركة يسأل وكأنه يريد أن يفرض رأيه، ويريد أن يفرض ما يريد من التحليل، فحينئذ تذهب كرامة العلماء، ويصبح العلم أشبه بأنه آراء.
ولذلك أصبح العلم في زماننا في كثير من الأحوال -إلا من رحم الله- إذا عرض للعامة يُعرض كرأي من الآراء، ولربما تُطرح القضية الدينية التي -والله- لو عُرضت على عالم من علماء السلف لجثا على ركبتيه خوفاً من الله أن يتكلم فيها، تُطرح للعامة، وكل يُدلي برأيه، فلربما تأتي مسألة موت الدماغ؛ هل هو موت أو لا؟ فيُستفتَى فيها كل أحد، ولربما تُنشر لكل أحد، ويؤخذ فيها رأي كل أحد؛ ولكن بين يدي الله عزَّ وجلَّ سيكون الموعد، ويعرف الناس فضل أهل العلم، وما أوجب الله عليهم من الرجوع إلى العلماء، وعندها يعرف الإنسان قيمة نفسه وقيمة غيره.
فينبغي الرجوع إلى العلماء، وإشعار العلماء عند السؤال أنهم علماء وأنهم أمناء على دين الله، نسألهم بكل ذلة، وليست لهم بذاتهم وإنما لله، ونقول: أجبني! فإنه قد أشكل عليَّ الأمر، بصِّرني! جزاك الله خيراً، ونحو ذلك، فالعلماء لا يريدون بذلك إلا النفع والحق.
فينبغي على المسلم الرجوع إلى العلماء وسؤالهم، واستفتائهم بالصورة التي تليق بحرمة العلماء، وتليق بمن يبحث عن الحق.
ثانياً: التسليم: فلا ينبغي لأحد يقول له أحدٌ: قال الله، قال رسوله، إلا أن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥]، فلا يقول: رأيي، وفي نظري، وفي اجتهادي، وعلى طلاب العلم أن يزجروا أمثال هؤلاء السفهاء، وأن يقولوا لهم: دين الله ليس فيه مجال للرأي، وشريعة الله عزَّ وجلَّ ليس لكل أحد أن يقول فيها برأيه، ولذلك قال أبو الدرداء: (عذيري من رجل أقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول لي: ما أرى بهذا بأساً، والله لا أصحبك ليلة واحدة)، وترك معاوية رضي الله عنه بالشام حينما قال له حديثاً من رسول الله، فقال معاوية رضي الله عنه: (ما أرى بهذا بأساً، فقال له: والله لا أصحبك ليلة واحدة، ورجع إلى عمر وقال له المقالة، فقال له: ارجع إلى ثغرك فوالله لا خير في قوم لا تكون فيهم).
كانت عنده الغَيرة على الكتاب والسنة.
فينبغي علينا التسليم بعد الحكم.
ثالثاً: الاستيثاق: فإذا جئنا نطرح المسألة للعلماء نطرحها بأمانة، فلا يطرح السائل المسألة وقد خفيت جوانب منها، ولا يحاول أن يحوِّر المسألة بطريقة ذكية تجعل العالِم يقتنع بجوازها، وبالتفصيل فيها، فعليه أن يتقي الله، وأن يطرح الأمر بكل أمانة، فإنه إن فعل ذلك وفق للرشد، وألهم الصواب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.