[كيفية التوبة من الغيبة]
السؤال
هل تكفي التوبة من الغيبة لمحو الذنب أم لابد من الاستسماح من صاحبها، أثابكم الله؟
الجواب
التوبة من الغيبة تنفع الإنسان فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يسقط حق الشخص المغتاب حتى يسامحه بطيبة نفسه، وإذا لم يسامحه فإنه سيلقى الله بذنبه ويأخذ من حسناته على قدر جرمه، حتى إذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات المجني عليه وحملها على ظهره -والعياذ بالله- ثم طرح في النار، فهذا فيه عظة للإنسان أن يتقي الله عز وجل في الغيبة.
ومن أهم ما ينبغي للمسلم أن يحذره أن ينظر إلى سبب ودافع الغيبة، خاصة في هذا الزمان الذي أصبحت الغيبة من أسهل ما يكون، حتى لربما وقع الإنسان في الغيبة وهو لا يشعر، والذي يدفع الناس اليوم، إليها سببان ما اجتمعا في إنسان إلا انتهك حدود الله عز وجل في عباد الله وأولياء الله المؤمنين، ونسأل الله عز وجل أن يعيذنا منهما.
السبب الأول: الاحتقار، ولذلك يجب على المسلم دائماً ألا يمسي ولا يصبح، ولا تغيب عليه شمس يوم ولا تشرق إلا وهو يعرف من هو المسلم؟ وما هي حرمة المسلم عند الله عز وجل؟ وعندها لا يمكن أن يفرق بين الناس بألوانهم أو بأحسابهم أو أنسابهم أو مناصبهم ووظائفهم أبداً، تجده يخاف من غيبة الفقير أكثر من خوفه من غيبة الغني، ويخاف من الضعيف أكثر من خوفه من القوي، وذلك من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى.
فعليك أن تعرف أن هذا المسلم له حرمة وحق عندك، وأن كونك مسلماً يوجب عهداً وذمة للمسلم عندك، والله يقول: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:١٠] (الإل): القرابة، و (الذمة) العهد، وأشد ما تكون الغيبة للقرابة، قد يجلس الشخص يقول: أبي يصرف المال الكثير، فهذه غيبة يهوي بها في نار جهنم، وهذه من أسوأ أنواع الغيبة، وهي غيبة الوالدين.
السبب الثاني الذي يوقع في الغيبة: النقد، فقد أولع الناس بالنقد، وحرص الناس على النقد، تجد الشخص يجلس في أي مجلس يريد أن يبدي رأيه فيه، ويشجع الصغير على أن يصبح عنده جرأة، ويعلمه كيف ينتقد، وكيف يقول الصواب والخطأ؟ وما وجدنا كيف نعلم الصغار وننشئ أبناءنا إلا على الغيبة، والعياذ بالله! فالنقد طريق الغيبة، ومن أشنع الطرق أن الإنسان إذا تعود كلما جلس مع أحد أن يراقب أخطاءه، فهذا من المحرومين -والعياذ بالله- وفي الحديث: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) فالذي تجده دائماً يجلس في المجلس وينتقد، وكما انتقد الناس عندك سينتقدك عند الناس، والذي تجده طويل اللسان صفيق الوجه لا يخاف الله في حرمات المسلمين، فبعض الأحيان تجده يجلس ويتكلم عن الإمام في المسجد ويغتابه، ويتكلم عن الخطيب في المسجد ويغتابه، يبدي رأيه في كل شيء، فهذا على خطر.
ثم هم يقولون: نحن في زمان الحرية، وعليه فكل شخص يتكلم، وهي حرية إلى جهنم وبئس المصير -والعياذ بالله- لأنها حرية على حساب أعراض المسلمين، حرية على التهور واحتقار الناس وعدم المبالاة.
فعلينا أن نهذب أنفسنا ونهذب أخلاقنا بترك احتقار المسلمين، والاحتقار كما يقع في عامة المسلمين يقع حتى بين طلاب العلم، طالب العلم القديم يحتقر طالب العلم الجديد، ويقول: من هذا حتى يأتي هنا، حتى يفعل أو يسأل أو حتى يقترب من الشيخ؟ وفلان أنا لا أحبه لأنه يسأل كثيراً ويفعل كثيراً، وما نريد كذا! فكل شخص يريد أن يقود الناس على طريقة معينة آمن بها ورضيها، لكن لو أن كل إنسان عرف قدر نفسه واشتغل بتهذيب نفسه وتقويمها، وشغلته عيوبه عن الناس لعرف أين يضع لسانه، والله ما من إنسان يراقب نفسه مراقبة تامة كاملة إلا سلم له دينه وعرضه، فتجد الإنسان الذي يعف عن أعراض المسلمين وفيه نظرة إلى عيوبه وخلله يشتغل بها عن عيوب المسلمين؛ تجده من أسلم وأحسن الناس.
النفس إذا هذبها الإنسان وقومها بالخوف من الله والورع والعفة استقامت لله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس في مجلس وسمع فيه غيبة يتضايق ويتذمر، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يجلس في مجلس يغتاب فيه مسلم، ويقول: أنا لا أسمح بحسناتي أن يأخذها أحد، ويقول: أنا بخيل بحسناتي، أكون كريماً في كل شيء إلا بحسناتي فلا أعطيها لأحد، لأنك إن سمعت النقد في الشيخ، أو في المحاضر، أو المدرس، أو المعلم، أو الملتزمين وغير الملتزمين، أو في فلان وعلان، فاعلم أنك ستنتقد كما انتقد غيرك، وقالوا: من جر إليك عيوب الناس جر عيوبك إلى الناس.
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن ومن هنا قالوا: من اغتاب الناس اغتابوه، ومن سب الناس سبوه، ومن أهان الناس أهانوه.
فعلى الإنسان أن يعلم أن هناك رباً حكماً عدلاً، فينبغي علينا في ترك هذه الآفة، أن يُحرص على الاشتغال بعيوبنا، وأن نترك عيوب الناس، إلا إذا كان المتكلم مصلحاً هادياً يفكر كيف يقود الناس إلى الخير، أما أن تجعل لحوم المسلمين وأعراضهم رخيصة فإن من فعل ذلك سيندم، ولكن الندم في أعراض المسلمين طويل ومؤلم، حينما يجلس يكتوي ليله ونهاره يريد أن يتوب إلى الله عز وجل، فإذا به لا يسقط عنه حق أخيه المسلم ما لم يسامحه، فيأتي إلى أخيه المسلم فيصده الشيطان ويقول له: كيف تجيء تقول له: اغتبتك، فيغلبه الحياء، أو الخجل، أو يغلبه إبليس، أو النفس الأمارة بالسوء، فتأخذه الأنفة والعزة بالإثم، حتى يموت الشخص فيعجز عن طلب السماح منه -والعياذ بالله- وعندها سيقف بين يدي الله عز وجل لكي يقتص منه.
فالحذر كل الحذر، ومن هنا ما من عالم ولا طالب علم ولا خطيب ولا أي إنسان يلتزم بدين الله عز وجل، ويهذب الناس ويقومهم ويقرعهم بقوارع التنزيل في حقوق المسلمين بعضهم على بعض؛ إلا نصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما دمرت كثير من مصالح المسلمين إلا بسبب الغيبة، وما حرص أعداء الإسلام اليوم على شيء مثل أن يربوا في الأمة قضية النقد، فتجد الشخص ولو كان صغير السن لا يرضى عن أحد، ودائماً يفكر في المثاليات وكأنه يبحث عن شيء كامل.
ومن أراد أن يبحث في الناس عن إنسان كامل فلن يجده، وسيتعب ويطول تعبه ويطلب المستحيل كما ذكر الحكماء والعقلاء، لأن الكمال لله عز وجل، والله يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:٨].
فإذا عاشرت المسلمين رحمك الله، فكن من خيارهم: إن رأيت خيراً حمدته، وإن رأيت عيباً سترته، وإن رأيت فساداً أصلحته، وإن رأيت اعوجاجاً قومته، وشغلتك عيوبك عن عيوب الناس، تمسي وتصبح وإذا بك تريق دمعة الندم والألم كلما آواك فراشك في الليل تفكر ما الذي قلته في المسلمين؟ وما الذي عملته مع المسلمين؟ وتفكر كيف تسعى إلى الأكمل والأفضل؟ فإذا فعلت ذلك وفقك الله، وفتح لك أبواب الرحمة.
فإن المسلم دائماً يوبخ نفسه ويعاتبها حتى تستقيم على طاعة الله عز وجل، والنفس إذا كثر توبيخ الإنسان لها، ومحاسبة الإنسان لها: ماذا قلتِ؟ ماذا عملتِ؟ غداً لن أعود؛ طال عمره في الخير، وحسن عمله، وصلح لله عز وجل، لكن إذا كان من الغافلين -والعياذ بالله- فإنه خاسر، والأشقى من هذا والأدهى أن يزين له سوء عمله، وأن يقال له: إن غيبة العلماء والكلام فيهم قربة وحسبة، وأن جرحهم وسلبهم وكشف عوراتهم واجب حتى لا يغتر بهم.
وانظر إلى عوقب من فعلوا ذلك، ما الذي شادوا من بناء؟ وما الذي أصلحوا من فساد؟ وما الذي قوموا من اعوجاج؟ والله ما زادوا البناء إلا هدماً، ولا زادوا الأمة إلا شقاءً وفرقة، حتى إن بعضهم حينما تاب يقول: والله ما وجدت إلا قسوة القلب، والتسلط على أعراض المسلمين؛ لأنه إذا تسلط على الصلحاء فمن باب أولى أن يتسلط على غيرهم، فيجب أن يرتدع الإنسان بزواجر التنزيل.
وانظروا كيف أن السائل أصبح في حيرة، لا يستطيع أن يتوب من ذنبه إلا إذا رجع إلى صاحب الحق.
وآخر ما نختم به ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة) ومعنى: (وما يعذبان في كبير) أنه ليس كبيراً عليهما تركه ولا هو شاق، وانظر حتى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له جاءت محدودة، وما رفع العذاب عنه، ولكن خفف، فما بالك إذا أصبح الإنسان يغتاب الناس والعلماء، وينفر من مجالسهم، فإذا كانت النميمة بين شخصين في أمور الدنيا هذه عاقبتها، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع في رفع العذاب، إنما قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا)، فقط، فكيف بمن يتكلم في العلماء!! لابد أن يتأمل الإنسان هذا، وسنقول ذلك ونعذر إلى الله عز وجل، والسعيد من وعظ بغيره، فقد رأينا من العواقب الوخيمة لغيبة الناس أينما كانوا، وبالأخص لأولياء الله وصالحيهم، فإننا وجدنا العواقب الوخيمة لمن يجرؤ على ذلك، ومن يستخف بذلك، والله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، ومن حيث لا يحتسب، اللهم لا تجعلنا ممن استدرجته، اللهم لا تجعلنا من المستدرجين، وخذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.