[المسافة التي يقصر فيها المسافر]
قوله: [من سافر سفراً مباحاً أربعة برد].
البرد: جمع بريد، والبريد كلمة أصلها فارسي وهو: (برده ذم)، قالوا: كان أصل البريد في اللغة الرسول، وكانوا يستخدمون البغال في إيصال الرسائل، فعلى كل مرحلة يجعلون محطة تكون فيها بغال مهيأة، فإذا أخذ الرسول الرسالة من محطة انطلق إلى المحطة الأخرى، فيجد رسولاً آخر ينتظره في المحطة فيعطيه الرسالة، فينطلق إلى المحطة التي تليها، فيكون أبلغ في وصول الرسالة في أقرب وقت، أو ينطلق نفس المسافر، فإذا وصل إلى المحطة الأولى وجد دابة فركب عليها إلى المحطة التي تليها، وهكذا حتى يبلغ المكان الذي يريده لرسالته، فسمي بريداً.
فالبريد نفس المسافة التي يقطعها المسافر في اليوم وهي المرحلة الكاملة، وهذه المسافة -التي هي أربعة برد- توقيت وتحديد ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله، فالمسافر لا يكون مسافراً إلا إذا قصد هذه المسافة فما فوقها، فلو كانت المنطقة أو المدينة التي يريد بلوغها دون أربعة برد فإنه لا يوصف بكونه مسافراً، فكما أن من خرج من مدينة إلى ضواحيها لا يعتبر مسافراً في حكم الشرع، فكذلك من انتقل إلى مسافة دون هذه المسافة.
أما الدليل الذي دل على اعتبار هذه الأربعة البرد فحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة -وفي رواية: مسيرة يوم- إلا ومعها ذو حرمة)، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المرأة أن تسافر بدون محرم، ولم يذكر مسافة توصف بكونها مسافة سفر دون اليوم والليلة، فدل على أن مسافة اليوم والليلة ومسيرة اليوم والليلة هي السفر.
وقالوا: إن الأربعة البرد من إنسان يسير يوماً كاملاً تكون على هذا الوجه؛ لأنه إذا مشى من أول النهار إلى أوسطه فإنه يقطع بريداً، ثم من أوسطه إلى آخره يقطع بريداً، فيتم له في النهار بريدان، ثم في الليلة بريدان، فأصبح المجموع أربعة برد، فهي مسيرة اليوم والليلة، فإن قالوا: مسيرة يوم وليلة فإنها مسيرة أربعة برد.
والبريد من الفراسخ أربعة، والفرسخ ثلاثة أميال، وبناء على ذلك لتكون المسافة ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً، وتقدر بالكيلو مترات، فبعض المتأخرين -قبل ما يقرب من أربعين سنة- اختبر سير الإبل، فذكر أن الإبل في اليوم تسير ما يقارب أربعين كيلو متراً، أي: من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تسير دون الأربعين شيئاً قليلاً، وقد تصل إلى الأربعين، فإذا كان السير معتاداً في الزمان المعتاد الذي ليس بشديد الحر ولا بشديد البرد، فإنه يصل السير إلى ما يقارب الأربعين كيلو متراً، فإذا حسبت في النهار أربعين كيلو متراً وفي الليل أربعين كيلو متراً فهي إلى الثمانين، فهو يقول: إنها تصل إلى ما يقارب ثمانية وسبعين كيلو متراً.
ومن العلماء من يقول: اثنان وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول: ستة وسبعون كيلو متراً.
ومنهم من يقول: ثمانون كيلو متراً.
فهي ما بين اثنين وسبعين كيلو متراً إلى ثمانين كيلو متراً، فإن احتاط فإنه يوصلها إلى الثمانين، ولكن الأشبه -فيما ذكره غير واحد- أنه إلى اثنين وسبعين يرخص له برخص السفر.
وقلنا: إن الدليل من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة)، فدل هذا النص الشرعي على أن من سار مسيرة اليوم والليلة فهو مسافر.
فإن قال قائل: كيف أسقطت ما دون اليوم والليلة عن كونه سفراً؟ وما هو الدليل على أن من خرج دون اليوم والليلة لا يكون مسافراً؟ قلنا: السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مواضع دون هذه المسافة -أي: دون مسيرة اليوم والليلة-، ومكث فيها ولم يقصر الصلاة، فقد خرج إلى الخندق وهو يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقل أو تكثر، خاصة إذا خرج من طريق بطحان، ومع ذلك لم يقصر رباعية، وخرج إلى أحد ولم يقصر رباعية، وكذلك ثبت عنه في الأحاديث أنه خرج إلى بني النضير وحاصرهم خمس عشرة ليلة في شهر ربيع ومع ذلك لم يقصر الصلاة، وبنو النضير على أميال من المدينة، وكذلك خرج إلى بني قريظة ولا تقل المسافة بينه وبينهم عن ستة أميال كما ذكر غير واحد، وهذه كلها ضواحٍ من المدينة بينها وبين المدينة دون اليوم والليلة، فكونه يخرج إلى هذه المسافات التي هي دون اليوم والليلة قاصداً إياهم -حيث قصدهم بالحصار والقتال- ومع ذلك لم يقصر الصلاة يدل على أن ما كان دون اليوم والليلة لا يحكم بكونه سفراً.
ولذلك قالوا: نرجع إلى أقل ما سماه الشرع سفراً، فنحكم بكون الإنسان مسافراً إذا قطعه، وأما ما دونه -كما لو خرج إلى قرية دون مسافة اليوم والليلة -فإنه في حكم من خرج إلى ضواحي المدينة وما قاربها.
وأكدوا هذا بأن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان لا يجيز لأهل مكة أن يقصروا الصلاة بعرفة، فقد سألوه رضي الله عنه وأرضاه: أنقصر الصلاة في عرفة؟ قال: لا.
ولكن إلى جدة وعسفان، أو الطائف.
وهذا السند صحيح عنه رضي الله عنه، ولم يختلف على ابن عباس رضي الله عنهما في فتواه بهذه المسألة، وقد كانت عسفان مسيرة يوم وليلة، وكانت جدة في ذلك الزمان مسيرة يوم وليلة، وكانت الطائف تربو على مسافة اليوم والليلة بشيء.
قالوا: فهذا يدل على أن الخروج المطلق لا يوصف بكونه سفراً، وإنما يكون سفراً إذا كانت المنطقة التي يريدها تبعد بمقدار اليوم والليلة فأكثر.
ثانياً: أنه قد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قصر الصلاة حينما خرج إلى وادي ريم، ووادي ريم يبعد عن المدينة ما يقارب ستين إلى سبعين كيلو متراً يقل قليلاً أو يكثر على حسب الطريق، وقد يزيد على السبعين قليلاً إذا قصدت آخر الوادي، وعلى هذا فهو يقارب مسيرة اليوم والليلة، وجاء عنه أيضاً في الرواية الأخرى -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قصر في الأربعة البرد، وما ورد عنه من أنه كان يقصر في الثلاثة الأميال فهو ابتداء قصره، بمعنى أنه لو خرج مسيرة اليوم والليلة كان إذا سار ثلاثة أميال قصر، بل حتى لو خرج من العمران يقصر، فعلى هذا لا تعارض بين الروايات عن ابن عمر، فإن الروايات القوية واردة عنه رضي الله عنه بالتأقيت في الأربعة برد ومسيرة اليوم والليلة، وإذا نظرنا إلى الأسانيد عن ابن عمر وجدنا أصحها وأقواها ما جاء عنه في القصر في الأربعة البرد، وهي عن أوثق أصحابه وأقربهم منه كـ سالم ابنه، وكذلك نافع مولاه رحمة الله على الجميع، خاصة وأنه ورد عنه أنه أمر بالقصر في هذه المسافة، فيقوى مذهب من قال -أعني: الجمهور-: إنها أربعة برد، وما ورد عنه من القصر في الثلاثة الأميال فإنه محمول على أنه ابتدأ القصر، بمعنى أنه خرج من المدينة ثلاثة أميال فحضرته الصلاة فصلى وهو قاصد لمسيرة اليوم والليلة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من المدينة، فإنه بمجرد أن وصل إلى ذي الحليفة قصر الصلاة، مع أن ذا الحليفة ليست على مسيرة مرحلة كاملة.
فهذا حاصل ما ذكر بالنسبة لأدلة السنة، وكذلك الآثار الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا لو لم نقل بالتحديد فإن ذلك سيؤدي إلى اختلاج الأحكام، فلو قلنا: إنه يرجع فيه إلى عرف الناس لاختلفت أعرافهم، فتجدنا نقول: عند هؤلاء يعتبر سفراً وعند غيرهم لا يعتبر سفراً.
ولأن نوايا الناس تختلف، فقد أراه على سفر ولا يراه غيري على سفر مع أن المسافة قد تكون واحدة.
وعلى هذا فإن نص النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مسيرة يوم وليلة) يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: أن يعتد بالزمان.
المسألة الثانية: أن يعتد بالمكان.
فعند اختلال إحداهما يرجع إلى الآخر، فإذا كانت المسافة الزمنية التي تقطع فيها المسيرة قاصرة عن اليوم والليلة رجعنا إلى مسافة المكان، وإن كانت مسافة المكان شاقة فيمشي الإنسان ويواصل بحيث يمضي يوماً وليلة وهو يمشي فإنه يرجع إلى التأقيت بالزمان.
توضيح ذلك أن الإنسان لو قطع مسافة السفر في سيارة في نصف ساعة أو ساعة فإنه مسافر؛ لأنها مسيرة يوم وليلة، وبنص الحديث مسيرة اليوم والليلة سفر، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة) يدل على أن المسافة معتد بها، وعلى هذا فلو سافر بالطائرة أو بالسيارة في برهة يسيرة أو زمان يسير فإننا نقول: هو مسافر التفاتاً إلى المكان الذي قطعه، أما لو كان المكان شاقاً كالأماكن الوعرة والجبال التي يصعب تسلقها والوصول إليها وشق عليه أن يقطع هذه المسافة فإننا نرجع إلى التأقيت بالزمان، ولذلك قالوا: إن الحديث تضمن التحديدين: تحديد الزمان إن تعذر المكان، وتحديد المكان إن تعذر الزمان، والاعتداد بهما إن تسايرا وتوافقا.
فالحاصل أن البريد أرعبة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما قيل: إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ ثلاثة أميال ضعوا فمسافة القصر أربعة برد، أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعون ميلاً، وما دونها فليس بسفر، فإذا قلنا: إن المسافة -مثلاً- ثمانية وأربعون ميلاً فلو أن إنساناً سافر سبعة وأربعين ميلاً فليس بمسافر، إلا أننا نقول: هذا لا حرج فيه، فإن الرجل إذا خرج إلى العمرة وحاذى الميقات ثم خطا خطوة واحدة ولبى ولم يحرم فإنه يجب عليه الدم، وإذا رجع إليه وأحرم منه سقط عنه الدم، فالشرع إذا حدد المكان فإنه لا يختلف فيه القليل ولا الكثير، ما دام أن هذا تحديد الشرع وهذا نصه، وهذه مكة فإنك قد تقف على آخر حدها فلو أن إنساناً دخل هذا الحد ونوى فيه -نسأل الله العافية- الظلم والإثم فإنه متوعد بالوعيد، ولو خرج شبراً واحد لم يحصل له ذلك الوعيد؛ لأن هذا تأقيت من الشرع، فلو سافر دون ثمانية وأربعين ميلاً ولو باليسير فإننا لا نقول -على ظاهر هذا النص-: إنه لا يحكم بكونه مسافراً.
هذا حاصل ما ذكره العلماء رحمه الله عليهم في مسافة السفر.