[تعليق الطلاق على مستحيل]
قال رحمه الله تعالى: [فصل: وإن قال: أنتِ طالق إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل؛ لم تطلق] ذكرنا غير مرة أن الفقهاء -رحمهم الله- ذكروا أمثلة والمقصود منها تقرير القواعد، وأن المهم لطالب العلم أن يعرف الضوابط والقواعد والأصول التي يمكن من خلالها ضبط المسائل، وقد يعبر بمسألة في باب الطلاق فيستفاد منها في ظهار أو لعان أو أيمان أو نذر، أو يستفاد منها حتى في بيع إذا علق البيع على شيء، فهناك تعليق على الممكن وهناك تعليق على المستحيل، وهنا لما شرع المصنف بالتعليق وذكر الاستثناءات ثم ذكر التعليق: التعليق على الماضي والتعليق على المستقبل، شرع الآن في التعليق على المستحيل، فيعلق طلاق المرأة على شيء مستحيل.
ذكرنا أن المطلق من حيث الأصل أعطاه الله الطلاق، ومكنه من تطليق زوجته، لكن هذا التمكين ممكن أن يطلق الإنسان ويبت الطلاق، وممكن أن يعلق طلاقه على شيء، فإذا وقع هذا الشيء الذي علق الطلاق عليه، فبينه وبين الله أنه قد طلق زوجته، فحينئذٍ يجب على الفقيه والمفتي والقاضي والمعلم أن يعلم متى يكون التعليق ممكناً ومتى يكون التعليق غير ممكن، ففي بعض الأحيان يعلق الطلاق على شيء لا يمكن أن يقع، وقد وجدنا نصوص الكتاب والسنة تعتد بالتعليق، وتعتد بصيغة الشرط التي فيها تعليق، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أهلّي واشترطي: إن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني، فإن لكِ على ربكِ ما اشترطتِ)، هذا في العبادات، وكذلك الله سبحانه وتعالى علق الشيء المستحيل على شيء مستحيل؛ لإفادة استحالته فقال: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠] فعلق الله المستحيل على مستحيل، فلما كان دخول الكافر للجنة مستحيلاً جاء بصيغة الاستحالة.
ففهمنا من هذا أن هذه الألفاظ لها حكم في الشرع، فإذا جاء يطلق ويعلق طلاقه على ممكن وقفنا عند هذا الممكن بصفاته، وطلقنا متى ما وقع الشرط بالصفة المعتبرة، فإذا وقع الشرط؛ وقع المشروط، وهذا معروف من منطوق القرآن والسنة، وليس عندنا فيه إشكال، لكن إذا علق الطلاق على أمر مستحيل؛ فإن الطلاق لا يمكن أن يقع، والمستحيل يختلف في كل زمان، وكل زمان له ألفاظه وعباراته، فقد يأتيك رجل من العامة ويسألك عن أشياء ما تخطر لك على بال، ولذلك يقولون: السائل أو المستفتي لا مذهب له، أي: لا تظن أن الناس تأتيك في حدود ما علمت، قد يأتيك بأشياء ضوابطها وأصولها عندك -وهذه ميزة الشريعة الإسلامية- لكن عين المسئول عنه من الصور والحوادث مستجدة.
ولذلك يقرر العلماء القواعد بالأمثلة، فقد يكون المستحيل مستحيلاً شرعاً، وقد يكون مستحيلاً عادة وعرفاً، وقد يكون مستحيلاً عقلاً، فحينئذٍ نحتاج إلى معرفة مسألة التعليق على المستحيلات، والتعليق على المستحيل إما بالنفي وإما بالإثبات، كقوله: أنتِ طالق إن طرتِ في الهواء، فإنه حينئذٍ أثبت الطلاق معلقاً على مستحيل وقد يقول لها: إن لم تطيري في الهواء فأنتِ طالق، فيأتي بصيغة النفي للمستحيل، فنفي المستحيل إثبات، فيثبت معه الطلاق؛ لأنه أثبت الطلاق بالنفي، فقد يثبت الطلاق بالنفي وقد يثبت الطلاق بالإثبات، وقد ينفي الطلاق بالمستحيل ونحو ذلك، كلها صيغ ستأتي.
قوله: (وإن قال: أنتِ طالق إن طرتِ) أي: في الهواء، فالعادة جارية على أن الرجل والمرأة والآدمي لا يمكنه أن يطير في الهواء، فحينما قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ، فمعناه أنه لغو، وعلق الشيء على شيء مستحيل، فصار طلاقها مستحيلاً؛ لأنه علقه على مستحيل، كما أن الله تعالى علق دخول الكفار فقال: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠] سم الخياط: ثقب الإبرة، وللعلماء رحمهم الله وجهان في تفسير الجمل في هذه الآية الكريمة: فقيل: الجمل هو الحيوان والبعير المعروف؛ لأنه لا يمكنه أن يدخل في ثقب الإبرة، فثقب الإبرة لا يسع مثل هذا الحيوان، فالمراد من الآية بيان استحالة الشيء، فقالوا: إن الله علق دخول الجنة للكفار على مستحيل، فصار دخولهم مستحيلاً، وقال بعض العلماء: هو في قراءة جُمل، والجُمل: الحبال الثخينة التي تشد بها السفن، فبعض العلماء يرجح هذا التفسير الثاني؛ لأن ثقب الإبرة يدخل فيه الخيط، فاختار شيئاً من جنس الخيوط وهو الحبال، لكنها بحجم لا يوافق الحجم الذي يدخل في ثقب الإبرة، كالحبال التي تشد بها السفن وتوثق بها، قال: ((لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ)) [الأعراف:٤٠]، يعني: دخول هذا النوع من الحبال في ثقب الإبرة مستحيل، فصار دخولهم مستحيلاً، هذا بالنسبة للآية الكريمة.
فهو إذا قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ في الهواء، فلا يمكن لها أن تطير في الهواء، لكن لو أن طيرانها في الهواء قصد به شيئاً معروفاً في العرف، مثلاً: قال لها: أنتِ طالق إن طرتِ، يعني: سافرتِ بالطيارة وقصد ذلك، حينئذٍ تترتب المسألة على مسألة الطلاق المعلق بالشرط وسيأتي، لكن إذا قصد أن تطير بيديها طيراناً فهذا مستحيل لا يمكن، فيكون قوله: أنتِ طالق إن طرتِ، تعليقاً للطلاق على مستحيل، فالطلاق محال.
المستحيل: هو الذي لا يمكن، أي: ما أبى الثبوت عقلاً أو هو المحال عقلاً؛ لأن الأشياء إما جائزة عقلاً، وإما واجبة عقلاً، وإما ممتنعة عقلاً، ثلاثة أقسام: وحكمنا العقل قضية بلا وقف على عادة أو وضع جلا أقسام مقتضاه بالحصر تماز هي الوجوب الاستحالة الجواز فواجب لا يقبل النفي بحال وما أبى الثبوت عقلاً المحال وجائز ما قبل الأمرين سمِ للضروري والنظري كلاً قسم فالأشياء ثلاثة: الشيء الثابت عقلاً الذي لا يمكن نفيه بحال، ويسمى هذا: واجب عقلاً، والشيء الذي لا يمكن أن يثبت عقلاً فهذا يعتبر من المستحيل أو من الممنوع عقلاً، وما كان ممكناً تقول: هذا جائز عقلاً، لكن لا تقل: واجب، ولا تقل: مستحيل، فعندنا الواجب والمستحيل والجائز، هذه الثلاثة الأقسام في القسمة العقلية، فالشيء عقلاً إما أنه واجب عقلاً، مثلاً: حينما تقول: هذا الكون مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق، فالعقل يدل على أن الخلق لابد لهم من خالق، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:٣٥ - ٣٦]، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:٣٥] أبداً لا يمكن أن يكون الخلق بدون وجود خالق وشيء يوجد به ذلك المخلوق، {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] الذين خلقوا أنفسهم.
فالقسمة العقلية إما أنهم هم خلقوا أنفسهم -وهذا طبعاً لا يمكن أن يقولوه- وإما أنهم خلقوا، وإذا خلقوا إما أنهم خلقوا من غير شيء وإما أن خلقوا بخالق، فجاء بالفرضيات التي على دينهم من باب رجوعهم إلى الأصل، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] إما أنهم خلقوا أنفسهم، وإما أنهم خُلِقُوا من غير شيء وليس هناك، ولذلك يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] فإذاً معنى ذلك: أن يثبت كون الله عز وجل خالقاً لهم.
فالمقصود: أن العقل يدل على أن الشيء إما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحيلاً وإما أن يكون جائزاً، فالمستحيل هو الذي يأبى العقل ثبوته، وبعض العلماء يقول: إن طيرانها في الهواء مستحيل عادة، يعني: في العادة مستحيل بالتجربة والنظر، فما وجدنا أحداً يطير، وعلى هذا يقولون: هذا من المستحيل عادة وليس من المستحيل عقلاً، فالعقل لا يمنع أن يطير إنسان مثلما أن الطائر يطير، لكن بعض العلماء يقول: إنه مستحيل عقلاً وعادة.
قوله: (أو صعدتِ السماء) يعني: لا يمكنها أن تصعد للسماء، وبناءً على ذلك علق على المستحيل، فإذا كان تعليقاً على المستحيل، فالتعليق على المستحيل مستحيل، والتعليق على المحال محال، فصار المحال لغواً، كأنه يقول لها: أنتِ طالق بلا طلاقٍ، يعني: طالق بشيء لا يمكن وقوعه وحدوثه، فعلى هذا كان قوله: (أنتِ طالق بكذا) من اللغو.
قوله: (أو قلبتِ الحجر ذهباً) يعني: لو كانت تقلب الحجر ذهباً لطلقها؛ وعادة العلماء أنهم يذكرون هذا، مع أن هذا ربح عظيم أن تكون الزوجة تقلب الحجر ذهباً، وعلى العموم إن قلبتِ الحجر ذهباً فأنتِ طالق، طبعاً لا يمكنها، أو أنتِ طالق إن قلبتِ الحجر ذهباً، فهي لا يمكن أن تقلب الحجر ذهباً، وهذا مستحيل، فعلق الأمر على مستحيل فهو مستحيل.
قوله: (ونحوه) مثلاً قال لها: إن أمسكتِ الريح -ما يمسكها إلا الله عز وجل- فأنتِ طالق، فهذا لا يمكن؛ لكن إن عكس كان العكس.
قال رحمه الله: (ونحوه من المستحيل لم تطلق) مثلما ذكرنا، وهذه كلها أمثلة.
قال رحمه الله: (وتطلق في عكسه فوراً) يقول: إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنتِ طالق، ومستحيل أنها تقلب، فلا نعطيها مدة يمكن فيها قلب الحجر، فإذا قال لها: إن لم تقلبي الحجر ذهباً فأنتِ طالق، إن لم تصعدي إلى السماء فأنتِ طالق، تطلق حالاً، إن لم تمسكي الريح فأنتِ طالق، طلقت حالاً، وعكسه بعكسه.
قال رحمه الله: [وهو النفي في المستحيل] نعم.
سواء بالنفي أو بالإثبات، إن لم تقلبي الحجر ذهباً، إن لم تطيري في الهواء فأنتِ طالق، إن لم تمسكي الريح فأنتِ طالق.
قوله: [مثل: لأقتلن الميت] الميت له حياة واحدة، وإذا مات فلا يمكن أن يعود إلى هذه الحياة؛ لأن الله تعالى كما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أنه لما اشتد عليه استشهاد أبيه رضي الله عنه وأرضاه؛ جلس يبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ابكه أو لا تبكه، لا زالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء -ثم قال له:- يا جابر! إن الله كلم أباك كفاحاً، وقال: تمنَّ يا عبدي، فقال: أتمنى أن أعود فأقتل في سبيلك ثانية) مما رأى من عظيم ما أعد الله للشهداء، فأحب أن يعاد مرة ثانية فيقتل، فقال تعالى: (أما إنه قد سبق العهد مني أنه من مات لا ير