[مشروعية قطع يد السارق]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب القطع في السرقة].
القطع هو: الفصل بين الشيئين، وفصل الشيء عن الشيء، والمراد به هنا: قطع اليد من السارق.
وقوله رحمه الله: (في السرقة) أي: في حد السرقة.
والسرقة في لغة العرب مأخوذة من: سرق الشيء، إذا أخذه على وجه الخفية، وكل شيء يقع على وجه الخفية يسمى سرقة، ومنه مسارقة النظر، وهو أن ينظر إلى الشيء دون أن ينتبه الغير إليه، ومنه استراق السمع، كما يكون من الشياطين كما أخبر الله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:١٨].
والسرقة: أخذ المال المحترم شرعاً على وجه الخفية من حرز مثله بالغ النصاب من مكلف ملتزم مختار، فإذا وقعت السرقة على هذا الوجه انطبقت عليها أحكام هذا الحد الشرعي.
وحد السرقة من الحدود التي أجمع العلماء رحمهم الله عليها، وثبت بها دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:٣٨]، وهي من التشريع المدني.
وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قطع في السرقة، فقطع عليه الصلاة والسلام يد المخزومية التي كانت تسرق وتستعير المتاع ثم تجحده، كما ثبت في السنة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، وقال في خطبته المشهورة حينما سألت قريش أسامة رضي الله عنه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها، فقال: (أتكلمني في حد من حدود الله؟)، وفي بعض الروايات: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فاعتبر السرقة حداً من حدود الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي -وفي لفظ: الشريف- تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فهذا يدل على مشروعية القطع في حد السرقة.
وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحد ليس خاصاً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الشرائع الموجودة فيمن قبلنا، بدليل قوله: (كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه)، وهذا يدل على أن حد السرقة ليس من الحدود التي تختص بها الأمة المحمدية.
وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية القطع في حد السرقة، وفعل ذلك الأئمة والخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفعله أئمة الصحابة رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فالإجماع منعقد على هذا الحد الشرعي.
وفي حد السرقة صيانة لأموال الناس، فكما أمر الله عز وجل بحفظ الدين، وبحفظ النفس من القتل، وبحفظ العرض من الانتهاك بالقول كما في القذف، وبالفعل كما في الزنا، شرع سبحانه وتعالى حد السرقة صيانة لأموال الناس من اعتداء المعتدين عليها، وهذا الحد فيه صيانة لحقوق الناس، وكبح لجماح الأنفس الدنيئة التي تعتدي على أموال الناس، وفيه زجر لأهل العقول السليمة عن الوقوع في رذيلة السرقة، ومن نظر إلى قوة هذا الحد ربما استغرب من شدة ألمه وعظيم موقعه، كيف تُقطع اليد من السارق لقاء هذا المال، مع أن حرمة الجسد أعظم من حرمة المال؟ ولكن من تأمل ما الذي يقع وما الذي يحدث للمسروق منه إذا أُخذ ماله من القهر والأذية والضرر والظلم وجد في هذا الحد حكمة عظيمة، ووجد فيه عدل الله جل وعلا الذي قامت عليه السموات والأرض.
ولذلك استشكل الزنادقة والملحدون هذا الحد من حدود الله، وأوردوا الاعتراض على الشريعة، حتى قال بعضهم: إن الشريعة تناقضت، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وقهره لخلقه أن يقطع ألسنة أهل الزيغ وأهل الفساد، فقالوا: كيف إذا قطع الرجل يد الرجل وجب القصاص، وإذا قطعها خطأً وجب الضمان بنصف الدية، ثم إذا سرق ربع دينار قطعت يده؟ فكيف تضمن هذه اليد بنصف الدية ثم تقطع في ربع دينار؟ فظنوا أن هذا من التناقض قاتلهم الله! وهذا من انطماس بصائرهم حتى قال قائلهم: تناقض مالنا إلا السكوت عليه وأن نعوذ ببارينا من النار يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فقال له القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: قل للمعري: عار أيما عار لبس الفتى وهو عن ثوب التقى عاري عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري فلما عزت وصانت كانت كريمة، ولما هانت وسرقت واعتدت أصبحت رخيصة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:٤١]، فالله يضع الرحمة حيث توضع الرحمة لمن يستحقها، ويوجب العقاب والعذاب على من يستحقه، ومن هنا لا تعارض في الشريعة؛ لأنها صانت اليد وهي كريمة، وقطعتها وهي خائنة لئيمة، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه.
فقوله: [باب القطع في السرقة] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بقطع يد السارق.