[إذا امتنع من الفيئة أمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم]
قال رحمه الله: [وإلا أمر بالطلاق].
قوله: (وإلا أمر) أي: يقال له: طلق، فإذا قال: لا أطلق ولا أرجع لزوجتي، فحينئذٍ يرفع إلى القاضي ويشتكى به، فإذا اشتكته امرأته إلى القاضي طالبه بالقضاء وقال له: ارجع إلى زوجتك، وكفر عن يمينك وأتِ الذي هو خير، فإذا قال: لا.
فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، فأصبح لا يريد أن يطلق، ولا يريد أن يكفر عن يمينه، فحينئذٍ يطلق القاضي عنه، ويكون من حق القاضي أن يتولى الطلاق، على خلاف عند العلماء، والصحيح أنه ينزل منزلته؛ لأن هذا من الظلم والإضرار، وقد بين الله عز وجل أن من حق الزوج هذه المدة، وإذا جاوزها التقط حقه، فإذا لم يفئ فإنه غير معاشر بالمعروف، فمن حق الحاكم والقاضي أن يطلق عليه.
قال رحمه الله: [فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ].
الحاكم: هو القاضي ومن في حكمه ممن ينصب لفض المنازعات وقطع الخصومات على الوجه الشرعي، وتكون أهليته على الوجه المعتبر، وتتحقق فيه الأهلية المعتبرة شرعاً.
فالقاضي إذا نظر حال الزوج مع الزوجة ووجده ظالماً مؤذياً مضراً، وأنه قد تعدى حدود الله، ولا مصلحة في رجوع المرأة إليه، فإن من حقه أن يطلقها عليه بالثلاث، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف على أن الثلاث بلفظ واحد ماضية، وبينّا هذا وبينّا وجهه ودليله.
فمن حق القاضي أن يطلق ثلاثاً لكي يمنعه أو يحول بينه وبين هذه المرأة التي آذاها وأضر بها، وكذلك من حقه أن يطلق الطلقة الأولى والثانية، فلو نظر أن من المصلحة أن يطلقها طلقة واحدة طلق طلقة واحدة، وهكذا لو كان الزوج قد طلق طلقتين وبقيت له طلقة واحدة، وجاء القاضي وأمر الزوج بالتطليق فلم يطلق، وأمره بالفيء فلم يفئ؛ طلق عليه الطلقة فكانت ثالثة، وسواء طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً.
وقوله: (أو فسخ) أي: يقول: فرقت بينكما، وفائدة الفسخ أنه لا يمتلك الزوج إرجاع الزوجة إلا بعقد جديد، ولذلك بعض العلماء يرى أن الطلاق هنا طلاق غير رجعي ولو كان طلقة واحدة؛ لأنه لو كان طلاقاً رجعياً لأمكن أن يقول: راجعتك، وتبقى المرأة في الضرر.
والصحيح أنه طلاق رجعي، وذلك لأن الحكم أن من حق القاضي أن يطلق أو يفسخ، فإن نظر المصلحة في الطلاق طلق، وإن نظر المصلحة في الفسخ فسخ، وإذا رأى أن يطلق فإن شاء طلق الطلقة الأولى، وإن شاء طلق الطلقة الثانية، وإن شاء طلق الطلقة الثالثة، ولو طلق عليه الطلقة الأولى والمرأة صارت رجعية فقال الزوج: راجعتك، فحينئذٍ أيضاً يحتسب له بحكم الإيلاء، ويوقف مرة أخرى ويقال له: إما أن تفيء وإما أن تطلق، وهذا هو اختيار جمع من العلماء رحمهم الله.
والسبب في هذا: أن المرأة مظلومة ومتضررة، ولا شك أنه إذا راجعها ولم يطأها فمعنى ذلك أنه يريد رجعتها من أجل الإضرار بها، والله يقول: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:٢٣١].
فبيّن أنه ظالم وأنه معتدٍ لحدود الله، فمن حق القاضي أن يمنعه، فلو طلق عليه الطلقة الأولى فراجعها مباشرة فاشتكته إلى القاضي وقالت: ما رجع إليّ ولا فاء، فأمره القاضي بالرجوع فأبى، فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، ففي هذه الحالة له أن يطلق عليه الطلقة الثانية، وكذلك لو راجعه بعد الثانية فله أن يطلق عليه الطلقة الثالثة، فله أن يصدرها مفرقة وله أن يصدرها مجتمعة؛ لأن الأمر عائد إلى النظر في مصالح الخصوم، والقاضي له حق النظر في مصالح الخصوم وله أن يفسخ.
ولماذا يلجأ إلى الفسخ؟ يلجأ إلى الفسخ إذا رأى أن الرجل يريد الإضرار، وأنه ليس من مصلحته أن يستخدم هذا الإضرار، فيفسخ نكاحها حتى يبعدها عن هذه المشاكل باحتمال أن يعود إليها، فيمكن أن يوجد زوج عنيد، ويعلم أن المصلحة أن تعود له زوجته، لكنه لا يريد أن يعيدها، ففي هذه الحالة لو أنه أعادها له بطلقة واحدة رجعية ربما فاتت الثلاث تطليقات بالإيلاء؛ فحينئذٍ يلجأ إلى الفسخ، فتحتسب له طلقة واحدة أفضل من أن تحسب له ثلاث طلقات، وهذا يرجع إلى فقه القاضي ودرايته بحال الخصومة.
فالعلماء رحمهم الله نصوا على هذا؛ لأن مقصود الشريعة دفع الضرر عن الزوجة بوجه لا يتضمن أيضاً الضرر على الزوج، ما لم يكن الزوج متسبباً في إدخال الضرر على نفسه؛ لأنه هو الذي حلف، وهو الذي صدر منه اليمين.
قال رحمه الله: [وإن وطأ في الدبر أو دون الفرج فما فاء].
بعد أن بيّن رحمه الله أن الوطء يرفع اليمين، بيّن أنه لا يعتد بوطء غير شرعي وهو الوطء في الدبر، وهذا من كبائر الذنوب، ومن الأمور المحرمة، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلامٌ نفيس في بدائع الفوائد وغيره من كتبه كعادته رحمه الله، فقد بيّن أموراً عجيبة -والعياذ بالله- في وقوع الزوج في هذا الأمر المحرم وهو إتيان الزوجة من الدبر؛ أنه يفسد الزوجة، ويفسد القلب ويظلمه -نسأل الله السلامة والعافية- وله العواقب الوخيمة على المرأة وعلى الزوج.
ولذلك فإن هذا النوع من الوطء محرمٌ شرعاً، ولا يُعْتَدُّ به، فلو حصل وطء به فإنه لا يعتبر فيئاً، ولا يُسْقِط حكم الإيلاء.