قال رحمه الله:[وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها].
قوله:(وإن تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها) هذا نكاح المحلل وهو التيس المستعار كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من التيس المستعار؟ هو الرجل ينكح المرأة حتى يحلها للأول) ولعن المحلل والمحلل له، وهذا يسميه العلماء نكاح المحلل، وصورته: أن تطلق المرأة ثلاثاً من زوج سابق فيتزوج اللاحق هذه الزوجة لأجل أن يحللها للأول، وهذه على صورتين: الصورة الأول: أن يكون ذلك بشرط واتفاق وتمالؤ، فهذا باتفاق جماهير العلماء أنه لا يجوز، والنكاح فاسد ويعتبر من الأنكحة المحرمة التي لا تصح.
والصورة الثانية: أن يكون في نيته أن يحللها للأول، فقد جاء عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاءه وقال: يا ابن عم رسول الله! إن عمي طلق امرأته ثلاثاً وإن نفسه قد تبعتها وإني أخشى عليه، أفأنكحها حتى أحلها له؟ قال: أي بني! إن الله لا يُخادع.
يعني: هذا من الخديعة، فأنت لا تريد نكاحها ولكنك في الحقيقة تريد أن تحللها لعمك، فالله لا يخادع فهو مطلع على السرائر والضمائر.
فقالوا: الباطن كالظاهر، يعني: سواءً أظهر أو أبطن فإنه لا يجوز ذلك، لكن لو أن المرأة حنت لبعلها الأول ورغبت في زوجها الأول لم تلم على ذلك، يعني: إذا رضيت بالزوج الثاني ووطئها ثم لم ترده فهذا من حقها؛ لأن امرأة رفاعة لما وطئها عبد الرحمن بن الزبير حنت لزوجها الأول وجاءت واشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها:(أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟) وهذا في الصحيحين، فصرح لها بمكنون نيتها، ثم قال:(لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتكِ) فالمرأة غير الرجل؛ لأن المرأة أصل مشروعية دخول الزوج الثاني أن تعرف قيمة الأول وأن ترجع إلى صوابها ورشدها، وانظر إلى حكمة الشريعة، فالطلقة الأولى رجعية، والطلقة الثانية رجعية، فقد يغلط الإنسان المرة الأولى والمرة الثانية ويخطئ، لكن لا يعطى مهلة ثالثة، فالمرة الأولى يتأدب بها ثم يرجعها:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا}[البقرة:٢٢٨] فإن طلقها الثانية كذلك أعطي مهلة، فقد تكون الطلقة الأولى غلطة منه وتكون الطلقة الثانية غلطة منها.
وقد يقول قائل: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فالطلقة الواحدة كافية، فنقول: نعم، الطلقة الواحدة كافية؛ لأنه ربما كانت الخطيئة منه والغلطة منه فاستعجل فطلق، لكن قد تكون هناك غلطة من المرأة فتأتي الطلقة الثانية لاحتمال أن تكون الطلقة بسبب المرأة، فإن كانت الطلقة الأولى والثانية بسبب الرجل نفسه تعنتاً منه وأذية فطلق الثالثة ندم أشد الندم وعرف مقدار هذا الطلاق، فأصبح إذا تزوج امرأة ثانية يتحاشى الطلاق، وإذا عادت له عادت له وقد عرف قيمة هذه المرأة، وحينما يتزوجها غيره ويطؤها ترغم نفسه ويناله من الألم والأسى والحزن ما الله به عليم، مما يعينه على إصلاح نفسه لو عادت له بعد طلاقها من الثاني.
فانظر كيف تهذب النفوس وتقوم، وكيف تتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فكأنه إذا تزوجت المرأة من زوج ثانٍ مقصود الشرع أن يتأدب كلا الزوجين، فالمرأة إذا تزوجها الثاني تنظر في هذا الثاني، فلو أن الثاني كان رجلاً كريماً محسناً فلا يمكن أن تفرط فيه؛ لأنها لما جربت الأول ووجدت الثاني أفضل منه لا يمكن أن ترجع للأول، هذا بالنسبة للمرأة، وأما إذا كان على خلاف ذلك في عشرته أو على خلاف ذلك في طبعه وأخلاقه فمن حقها أن تدفع الضر عن نفسها وتحن للأول؛ لأن القلوب لا تمنع.
فأياً ما كان إذا دخل الرجل بنية أن يحلل المرأة للأول فلا، سواءً صرح بذلك عن طريق العقد أو لم يصرح بأن خبأ تلك النية وكانت في مكنونه، وأثر عن بعض الصحابة والسلف رضوان الله عليهم كـ الحسن وغيره أنهم خففوا في ذلك، وخفف فيه بعض التابعين إذا غيب النية في قلبه، وأن نكاح المحلل المراد به أن يضع ذلك شرطاً أو يتمالأ عليه فيأتي ولي المرأة ويقول: يا فلان! تزوج ابنتي وحللها لفلان، أو يأتي الزوج لصديقه ويقول: حلل لي فلانة، فهذا ملعون -نسأل الله السلامة والعافية- وملعون من أمره بذلك ورغبه أو دعاه إلى ذلك سواءً كان ولياً أو كان زوجاً.