للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم الخصم الجزائي على الموظف]

السؤال

في بعض الأحيان يكون غياب العامل ساعة أو أقل أو أكثر يضر بمصلحة العمل، فنخصم عليه نصف يوم تأديباً وردعاً لغيره، فهل يجوز ذلك؟

الجواب

يقول صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر)، أي: يجيء شخص فيقول له: أمَّنِّي، فأعطاه الأمان بالله على أنه لا يفعل به شيئاً، فإذا مكنه من نفسه غدر به وأضر به، أو أعطى عهده على أنه على بيعته للإمام أو ولي أمره ثم غدر، فهذا خصمه الله عز وجل، ومن كان خصمه الله فقد خصمه.

وأما الثاني: (ورجل باع حراً فأكل ثمنه).

وأما الثالث: (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره).

وهذا رجل عمل عندك إحدى عشرة ساعة، فعليك أن تعطيه أُجرة إحدى عشرة ساعة كاملة غير ناقصة، وإن غاب ساعة فتخصم عليه ساعة، لا تزيد ولا تُنقص، وهذا هو القسط الذي أمرك الله به، والله تعالى يقول: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:٨٥]، وهذا ظلم، فإذا كان قد عمل يوماً ثم اخترم من اليوم جزءاً فتأتي وتأكل من ماله، وهو من عرَقِه وتعبه ونصبه، بدون حق على سبيل التأديب، فهذا ليس بوارد وليس بصحيح.

وبعض المتأخرين من العلماء اجتهد في هذه المسألة وقال: إنه يجوز من باب التعزير.

ولكن هذا ليس بصحيح، فإن هذه نصوص واضحة، والنصوص الواضحة لا اجتهاد فيها، فالأجير له أجره كاملاً، فلا يجوز أن يُنقص من أجره شيئاً، وإذا أردت أن تؤدبه فقل له: ما دمت بهذه المثابة فلا تعمل عندي، والواجب علينا أن ننظر بالعدل والإنصاف، فالعامل إذا غاب ساعة فانظر إن كانت عنده ظروف، وأنت تعرفه بالجد والاجتهاد والمحافظة، فاعلم أنه إن غاب وقصّر فذلك بدون اختياره، وإذا قصّر مرة فليسعه حلمك، والوفي الكريم هو الذي لا ينسى الفضل، والشخص الذي يحاسب الناس بهذه الدقة سيشدد الله عليه كما شدد على الناس، فينبغي على الإنسان أن يكون بعيد النظر، وخاصة مع هؤلاء الضعفاء المستأجَرين المستخدمين، ولذلك فإن الله تولى أمرهم؛ لأن الغالب في الأجير أنه يكون ضعيفاً، ولذلك قال: (أنا خصمه)، فالله سبحانه هو خصيم هؤلاء، فعلى المسلم أن يتّقي الله عز وجل.

فإذا استأجرت أجيراً أو عاملاً وقام لك بعمل ولم يتمه، فأعطه حقه فيما قام به غير منقوص، وتلقى الله سبحانه وتعالى وأنت بريء من حقوق الناس.

فليس هناك أعظم من حق إخوانك عليك، فقد يتحمل الشخص ذنوباً وسيئات فيما بينه وبين الله فيغفرها الله له في طرفة عين؛ لأنها من حقوق الله، والله يتجاوز عنها؛ لكن حقوق الناس لا يتجاوز الله عنها، ولا بد أن يسامح صاحب الحق، والغالب أن الضعفاء إذا أُكِل كدُّهم ونصبهم وتعبهم أنهم لا يسامحون، فينبغي على الإنسان ألا يخرج أحداً من هؤلاء الضعفاء إلا وقد وفىَّ له أجره.

ومسألة العقوبة بالتعزيرات هذه مسألة مقدرة بأشياء مخصوصة، منها ما ورد في الزكاة: (إنا آخذوها وشطر ماله)، فالذين قالوا بالجواز قاسوها على الزكاة، وهذا غير صحيح؛ لأن الحديث: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، فهذا نص جاء يستثني الزكاة؛ لأن الله يملك الناس وأموالهم، لكن الأجير لا تملكه وماله، بل تملك عمله ومنفعته، فإذا أعطاك العمل والمنفعة ناقصة بعض الشيء فأعطه بعض الشيء.

والوقفة الأخيرة: يا أخي الكريم! ليسأل كل واحد منا نفسه، فقد يتأخر بعض الأحيان العامل وقتاً يسيراً عن العمل، فيقيم صاحب العمل الدنيا ويُقعدها على هذا التأخر، وقد يتأخر ابنه في شيء يرسله فيه فيحصل عند الابن بعض التساهل ويتأخر فيقيم الدنيا ويقعدها، وقد تتأخر زوجته فيقيم الدنيا ويقعدها، وهو لا ينظر إلى نفسه وهو يتأخر عن ركن من أركان دينه، وهي الصلاة، فإن الله قد فرض عليك أن تصلي مع الجماعة، فسل نفسك متى جئت وكبّرت تكبيرة الإحرام مع الإمام؟ لماذا يشدد الإنسان دائماً في معاملة الغير وينسى نفسه؟! أذكر ذات مرة أنه حصل ظرف مع أحد الأشخاص فتأخر بعض من يقوم عليهم، فعاقبهم عقوبة شديدة، فقلت له: يا أخي! هذا لا يجوز، وليس هذا من حقك، فقد كانت عقوبة خارجة حتى عن الأصل الذي من حقه أن يعاقب فيه، فقلت: ليس ذلك من حقك، فقال: حتى يتأدب.

فسألته: أنشدك الله ألا تتأخر عن الصلاة التي فرضها الله عليك؟ قال: بلى، فقلت: يا أخي! إذا كنت أنت تعذر نفسك في الصلاة وأنت تتأخر عنها، وأنت شبعان ريان تسمع نداء الله عز وجل، وأنت في أتم عافية، وعندك سيارة، ومع ذلك لا تدرك تكبيرة الإحرام ولا تؤدي حق الله كاملاً، فتحاسب -بكل تشدد وبكل أذية- هؤلاء الضعفاء!! والله لا آمن أن يُشدد الله عليك مثلما شددت عليهم.

فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، وليعلم أنه مثلما يعامل الناس سيعامله الله؛ لأنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يديِّن الناس، وكان يقول لأوليائه وعماله: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه)، فمثل ما تفعل فيمن تحتك يفعل الله بك.

ومما ذكره الحكماء: أنك لن تجد رجلاً يرفق بالضعفاء الذين من تحته إلا وضع الله له القبول فيمن فوقه، وثق ثقة تامة أن الله عدل، وتجد الذي يعسر على من تحته منكدة أموره ممن فوقه؛ لأن الله عدل، وهذا الكون لا يظن أحد أنه سدى، بل إن أزِمَّته ومقاليد أمره بيد جبار السموات والأرض، والقسط بيده سبحانه يخفضه ويرفعه سبحانه وتعالى.

فعلى الإنسان أن يدرك أن حقوق الضعفاء لا يُتسلط عليها؛ بل تُدفع إليهم كاملة، فإذا عمل عندي تسعة وعشرين يوماً وترك يوماً من الشهر أخصم عنه يوماً واحداً، ولا أزيد، وإن نقصت في الخصم فجزاك الله خيراً، وإن تجاوزت عنه تجاوز الله عنك، إذا نويت وجه الله عز وجل وابتغيته.

فمثل هذه الأمور أُوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فيها، وبالأخص في الأبناء والبنات والزوجات والأهلين، وكذلك العمال والخدامين والخدامات والمستأجرين من الضعفاء، فليتقِ الإنسان فيهم ربه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليضع نُصب عينيه أنه تحت قدرة الله عليه.

فقد جاء في الحديث الصحيح: أن أبا مسعود قال: (كنت أجلد غلاماً لي؛ فلم أشعر إلا وبرجل من وراء ظهري يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله، قال: فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله).

لقد كان الصحابة بمجرد وعظهم يُوعظون ويتركون الذنب، فقال له عليه الصلاة والسلام: (الله أقدر عليك)، فقَرن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدرته عليه وقدرة الله، وهذا يدل على أن الله سيعامل الإنسان مثل معاملته مع الغير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح للخير، وأن يُيسِّر بنا ولا يُعسِّر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>