صورة المسألة: أن يكون الإنسان عاطشاً ولا يجد ماءً أو مائعاً يذهب به العطش من المباحات، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يبتلينا بذلك، فيصيبه العطش الشديد الذي يخاف معه الهلاك، هذه صورة، أو يصيبه العطش الشديد الموجب للحرج، فالعلماء والأئمة-رحمهم الله- اختلفوا: هل يجوز شرب الخمر عند العطش الشديد؟ ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز شرب الخمر عند العطش، وهذا مذهب الجمهور، وبعضهم ينسبه إلى عامة العلماء، والواقع أن فيه خلافاً، فقد ذهب بعض العلماء إلى جواز إطفاء العطش بالخمر، كما هو منصوص عليه في مذهب الحنفية رحمهم الله، إذا وصل إلى مقام الحرج.
وذهبت طائفة ثالثة إلى التفصيل، وقالوا: إذا كانت الخمرة مستهلكة بشيء يمكن أن يحصل به انطفاء حرارة العطش، ويحصل بها المقصود فبها ونعمت، وإلا فلا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وطائفة من أهل العلم من أصحاب الشافعي، وغيرهم رحمة الله عليهم.
أصحاب القول الأول يقولون: لا يجوز أن يطفئ العطش بالخمر؛ لأن الخمر تزيد الإنسان عطشاً إلى عطشه، فمادتها -بشهادة الأطباء- حارة، قالوا: لذلك لا يشرب أحد الخمر إلا وعنده ما يطفئ حرارتها، والغالب فيهم أن يضعوا فيها المبردات، أو يضعون بجوارها ما يبرد، فهذا يدل على أن ما يذكرونه من كونها تطفئ العطش ليست مصلحة موجودة في الخمر، فإذا شككنا في وجودها فإننا لا نستطيع أن نستبيح المحرم الواضح لمصلحة محتملة، وهناك فرق بين التداوي وبين مسألة العطش.
قال أصحاب القول الثاني: يجوز إطفاء العطش بالخمر، وذلك لأنه في مقام الحرج، فإذا شرب الخمر أطفأ عطشه، وهذا يدفع عنه الحرج، ولربما يكون يخشى الموت، فإذا شرب ذهب عطشه.
وفي الحقيقة: مذهب التفصيل هو أعدل الأقوال في المسألة، وكما ذكره شيخ الإسلام، ويشترط أولاً أن يغلب على ظنه أنه إن لم يشربها سيهلك، ويصل إلى درجة الخوف من الهلاك، ولا يجوز له شربها لمجرد العطش الذي لا يخاف معه الهلاك.
ويشترط ثانياً: أن يغلب على ظنه أنه لو شربها أنها تطفئ عطشه، كما لو كان معها مادة مستهلكة فيها، أو عنده خبرة -كما يقع لبعض حديثي العهد بالجاهلية- أن هذا النوع يطفئ عطشه، فحدثت له هذه الحادثة، واضطر إلى شربها على هذا الوجه؛ فيرُخص له، وهذا هو القول الأعدل والأقرب إلى الصواب إن شاء الله في هذه المسألة.
قال المصنف رحمه الله:[ولا غيره] يعني: غير العطش من الأمور الأخرى التي يُتذرع بها، كما يفعله البعض من الدلك بها، فيأخذ مادة الكحول ويدلك بها اليد، أو للتعقيم من الجراثيم، أو زيادة النضرة والجمال، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى خالد:(بلغني أنك تدلك بالخمر، وإن الله حرم الخمر ظاهراً وباطناً، فإياك! أن تفعل ذلك فإنها نجسة) وهذا يؤكد أنه لا يجوز تعاطيها في هذه الأمور ولا في غيرها؛ ولذلك عمم المصنف رحمه الله الحكم كما هو ظاهر العبارة.