[مشروعية الإجارة]
وقد شرع الله هذا العقد بدليل الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل جواز الإجارة من الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {َإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:٦]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أحل إجارة المرضعة، وأمر بإعطائها أجرها، فدل على مشروعية الإجارة، وكذلك قال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه شعيب عليه السلام على أصح أقوال العلماء في تفسير الآية: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:٢٧] الآية، وقد اختلف في قوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ)، فقال طائفة من العلماء: (تأجرني) أي: تعمل عندي ثماني سنوات وأزوجك إحدى ابنتي، فبناء على ذلك استأجره من أجل أن يعمل في رعي الغنم على الصحيح ثمان سنوات، وإن أتمها عشراً فمن عنده، وهذا القول هو الصحيح، فتكون (ثماني حجج) جمع حِجة أو حَجة، والحَجة والحِجة وصفت بذلك لأن العرب تطلق على العام الكامل حجة؛ لأن الحج لا يتكرر في السنة أكثر من مرة واحدة، فيقولون: حَجة، ويقولون: حِجة، فقوله: (ثماني حجج) أي: ثمان سنوات.
الوجه الثاني في الآية: (على أن تأجرني ثماني حجج) أي: الحج، وقصد بذلك الحج إلى بيت الله الحرام، وهو قول مرجوح في تفسير الآية الكريمة، وقالوا: هذه الآية تدل على جواز الإجارة على الحج، ولكنه قول مرجوح كما حكاه الإمام الماوردي رحمه الله في الحاوي وغيره.
هذا بالنسبة لقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام في قصته مع موسى، ولذلك استأجر موسى نفسه من شعيب وأتم عشر سنين، قال بعض العلماء: إذا سئلت: أي الأجلين قضى؟ فقل: أكبرهما، وإذا سئلت: أيهما نكح؟ فقل: أصغرهما، فقد تزوج أصغر البنتين، وأتم أوفى الأجلين عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا شأن الكرام.
ومن الأدلة: قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام يخاطب الخضر حينما رفع الجدار: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:٧٧] وفي قراءة: (لتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فقوله: (لاتخذت عليه أجراً)، أي: إنك حينما رفعت الجدار كان بالإمكان أن تطالب أهل القرية أجرة رفع الجدار، فدل هذا على مشروعية الإجارة.
ومن مجموع هذه الأدلة من الكتاب قال العلماء: إن الإجارة ثابتة بدليل الكتاب.
وأما دليل السنة: فهناك أحاديث قولية وأحاديث فعلية: أما الأحاديث القولية: فما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه فلم يوفه أجره) نسأل الله السلامة والعافية! ووجه الدلالة في قوله: (ورجل استأجر أجيراً) أي: عاملاً، (فاستوفى منه) أي: أخذ العمل كاملاً ولم يوفه أجره، حتى ولو أنقصه شيئاً بسيطاً من أجرته فإن الله خصمه يوم القيامة، فليست القضية أن يمنعه من الأجرة، أما إذا منعه من الأجرة ولم يوفه فهذا أعظم، حتى لو أنقصه شيئاً من أجرته فإنه داخل في هذا الوعيد، ووجه الدلالة في قوله: (استأجر أجيراً)، فدل على جواز الإجارة ومشروعيتها.
وأما الدليل الثاني: فهو حديث اختلف العلماء في سنده، وقد حسن بعض العلماء إسناده، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، وهذا يدل على حفظ حقوق الأجراء، وأنه ينبغي الوفاء لهم، وفيه دليل على مشروعية الإجارة.
أما السنة الفعلية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر وفعل الإجارة، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟! قال: نعم، كنت أرعى الغنم لأهل مكة على قراريط)، وهذا الحديث صحيح وثابت عنه عليه الصلاة والسلام، ووجه الدلالة أنه قال: (كنت أرعى الغنم لأهل مكة على قراريط)، والرعي منفعة؛ ولذلك قالوا: يجوز أن تؤجر العامل أن يرعى الإبل أو الغنم أو البقر ويقوم عليها وعلى مصالحها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة)، واختلف في قوله: (على قراريط) فقيل: إن قراريط موضع بمكة كان يرعى فيه، وهذا قول إبراهيم الحربي رحمه الله، والسبب في هذا: أن القراريط لا تطلق على الفضة، واستعظموا أن تكون من الذهب والدنانير، فقالوا: الغالب أن قوله (على قراريط) أي: موضع بمكة، وقد ضعف هذا القول الإمام ابن حجر رحمه الله، إلا أن الأرجح والأقوى وأنه على قراريط من دنانير، ولكن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين ذلك.
أما الدليل الثاني الفعلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث صحيح عن أم المؤمنين عائشة: أنه لما أراد الهجرة من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً، وهذا الرجل يقال له: عبد الله بن أريقط، وكان من الأزد، وقد كان على دين كفار قريش، فاستأجره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة من أجل أن يدلهم على الطرق التي لا يسلكها الناس، فسلك بالنبي صلى الله عليه وسلم مسلكاً حذراً، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أنه استأجره، تقول عائشة رضي الله عنها: (استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل يقال له عبد الله بن أريقط، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، ودفعا إليه راحلتيهما)، فدل على أنه استؤجر والنبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه المال، وهذا بعد الوحي، فدل على مشروعية الإجارة وجوازها.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية الإجارة، ولكن خالف في ذلك الأصم وابن علية، وهما محجوجان بالإجماع قبلهما كما قال الأئمة، وقد شدد بعض العلماء في خلاف هذين العالمين لمشروعية الإجارة، حتى قال بعضهم مقالة صعبة، كقول الإمام أبي بكر بن العربي: ولم يخالف في شرعيتها إلا الأصم فكان عن دليلها أصم.
ومراده من ذلك: أنه رد السنن والأحاديث الصحيحة، وقد كان العلماء يشدون على من يرد الأدلة الواضحة القوية فيحرم ما أحل الله عز وجل، وقوله: كان عن دليلها أصم، أي: أنه تصامم وهذه إنما هي كلمات لا يقصد منها العلماء حقيقتها؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين: (عقرى حلقى أحابستنا هي؟!) فليس المقصود حقيقة الشتم، وإنما المراد تنبيه طلاب العلم على أنه لا يقبل قول أحد كائناً من كان إذا صادم الكتاب والسنة، ولذلك قال الإمام أحمد: أبو ثور في هذه المسألة كاسمه.
أي: مسألة ذبيحة المشرك المشهورة، وكل هذا من باب التشديد والتشنيع على المخالف للسنن، والأدلة الواضحة، والذي يأتي بالشذوذات المخالفة لمذهب الصحابة والتابعين والأئمة، فـ الأصم وابن علية رحمهم الله كان قبلهما إجماع الصحابة والأئمة، والسنن والآثار في ذلك واضحة، إضافة إلى دليل الكتاب، ومع هذا كله شدد العلماء رحمهم الله في خلافهم.
وهذا النوع من العقود فيه رحمة بالناس وتيسير على العباد، فأنت إذا احتجت إلى مأوى أو سكن فقد لا تستطيع أن تشتريه، فخفف الله عز وجل عنك بأن تستأجره مدة بقائك، وقد تنزل بالمدينة والقرية والمكان المعين، وأنت لا تريد البقاء إلى الأبد، وإنما تريد أياماً أو ساعات، فحينئذٍ خفف الله عز وجل ويسر على العباد بشرعية الإجارة، فتقضى بها المصالح، وتتحصل بها المنافع، وتدرأ بها المفاسد، فأنت لو كانت عندك مزرعة لا تستطيع حراستها، أو كان عندك إبل لا تستطيع رعيها، فتستأجر، فينتفع الأجير وتنتفع أنت، فتتحقق بذلك المصالح لعموم المسلمين، ففيها الرفق بالناس أفراداً وجماعات.
وقوله رحمه الله: (باب الإجارة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الإجارة.
ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن المزارعة نوع من الإجارة، فلما فرغ رحمه الله من الإجارة الخاصة بالمزارعة شرع في الإجارة العامة، وهذا من باب التدرج من الأدنى إلى الأعلى، وهذا مسلك العلماء رحمهم الله، أنهم ربما يذكرون الخاص قبل العام حتى يتمكن الإنسان من معرفة الأحكام العامة لعقود الإجارة.