بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تجوز بأكثر من الثلث لأجنبي، ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت، فتصح تنفيذاً].
بين المصنف رحمه الله في هذه الجملة أن الوصية لا تصح فيما زاد على الثلث، وقد بيّنا أن الأصل في هذه المسألة حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الثلث والثلث كثير) ومن هنا أخذ العلماء دليلاً على أنه لا يملك الإنسان في وصيته ما زاد على الثلث، وإذا فعل ذلك فإنه يطالب الورثة بالإذن أو الامتناع، فإن شاءوا امتنعوا فتُلغى الوصية فيما زاد على الثلث، وإن شاءوا وافقوا فتمضي، كما ذكر المصنف رحمه الله، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أن الذي يملكه الإنسان في صدقته ووصاياه في حدود الثلث.
وفي هذا حكمة من الله عظيمة؛ لأن الإنسان إذا حضره الأجل عظُم خوفه من الآخرة، وانكشفت له حقائق الأمور، وزال عنه اللهو والغرور، وأصبح مقبلاً على آخرته، فعندها لو مكّن الله الإنسان من جميع ماله لتصدّق بجميع ماله؛ لأنه يريد أن يفتدي من عذاب الله عز وجل، وأن يَسلم من تبعات الأموال التي جمعها، والخيرات التي حصَّلها؛ فإذا وقف على آخر الدنيا فإنه يغلِّب مصلحة نفسه على مصلحة ورثته، ولو فُتح هذا الباب لما أبقى ميت لورثته شيئاً، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم)، أي: عند الوفاة، حتى تكون من وصية الإنسان لآخرته يستصلح بها ما فسد، ويتدارك بها ما فات؛ فيصل بها رحمه، ويجعل بها صدقة جارية عليه بعد موته، فهذا من الخير والرحمة التي جعلها الله عز وجل لعباده المؤمنين.
قال رحمه الله:(ولا تجوز بأكثر من الثلث) أي: لا تصح الوصية في الشيء الزائد على الثلث، فالثلث نستخرجه من جميع ما تركه الميت؛ سواءً كان من النقود أو من غيرها، فمثلاً: لو كان قد ترك سيولة من النقد ما يقارب مائة ألف، وترك (عمائر) وأراضي وعقارات وأموراً أخرى، ففي هذه الحالة لو قال: أَوصيت بمائتي ألف، فالسيولة تُعادل المائتي ألف، فإننا لا نقول: إنه قد أوصى بكل ماله، وإنما ننظر كم قيمة العقارات التي تركها والسيارات التي كان يملكها، ولو كان عنده أطعمة في بيته، مثل أكياس الأرز التي للتجارة، ونحوها، فإذا كانت تجارات ونحوها فإنها تُقوَّم وتنظر قيمتها، ثم ينظر المبلغ الذي وصى به هل يعادل ثلث جميع التركة أو لا يعادلها؟ فلو أننا وجدنا العقارات تساوي مليوناً، وهو قد أوصى بمائتي ألف، فلا شك أن المائتين نافذة؛ لأنها دون الثلث، فتصح وصيّته وتمضي، ولكن إذا كانت العقارات مجموعها يُعادل مائة ألف، كأن يكون مجموع ما عنده من الأراضي -مثلاً- أربع قطع، وكل قطعة تساوي خمسة وعشرين ألفاً، فهذه مائة ألف، ثم هو قد أوصى بمائتي ألف، فالمائتان تعادل ثلثي التركة، فحينئذٍ تَصِح في المائة، وتبقى المائة الزائدة ويسأل عنها الورثة: هل يمضونها أم لا؟ وينبغي أن يكون إمضاء الورثة بدون إحراج، فبعض الورثة قد يُضايق بعضاً في إنفاذ وصية الوالد والوالدة فيما زاد على الثلث، وهذا أمر لا ينبغي؛ لأن الذي يخرج بوجه الحياء وبالإكراه لا خير فيه، وربما أن هذا المال إذا أخذه الإنسان على هذا الوجه فقد يكون منزوع البركة، فتأتي العاقبة الوخيمة لمن أخذه من صاحبه بدون رضاه ولا بطيب نفس منه.
فينبغي ألا يضايق بعض الورثة بعضاً في هذا، فيقول مثلاً: إن الوالدة قد وصّت بالمائة ألف لكي نخرجها، وفي ذلك إضرار، فقد يكون بعض الورثة مديوناً، وقد يكون معسراً، وقد يكون عنده من العيال والضعفة ما يجعله يحتاج إلى أن يأخذ من الإرث حتى يواسيهم، أو يُصلح من شئونهم، فينبغي النظر في مثل هذه الأمور، وعدم تغليب العواطف على الأمور الشرعية المقررة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المواريث والفرائض التي قسمها الله من فوق سبع سماوات أمرها عظيم، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تصل الحقوق إلى أهلها.
وقد تترك الوالدة -مثلاً- حلياً، وهذا الحلي في بعض الأحيان يعادل أربعين ألفاً، وفي بعض الأحيان يعادل مائة ألف، وبعض النساء قد يعادل حليها عشرات الآلاف أو مئات الآلاف، فتجد بعض الورثة يقول: نأخذ حليها ونتصدق به، فلا ينبغي هذا؛ بل ينبغي وضع الأمور في نصابها، ومعرفة ما الذي خلّفه الميت، وما الذي ينفذ من وصاياه إلزاماً، وما الذي ينفذ اختياراً، أي: باختيار الورثة وموافقتهم، وينبغي الرجوع إلى أهل العلم وسؤالهم في مثل هذا، وعدم تغليب العواطف في هذه الأشياء؛ حتى يكون الإنسان على السنن، وتكون طاعته لله عز وجل على بصيرة ونور.