قال رحمه الله:[ويعدل بين الخصمين في لحظه] وهذا من أدب المجلس؛ لأن عمر بن الخطاب لما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء -الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين، وهو يسمى كتاب السياسة الكبيرة وهو من أعظم الكتب التي اعتنى العلماء بها- قال له:(آسِ بين الخصمين في عدلك ولحظك ومجلسك) في لحظك: أي: ينبغي أن يعدل بين الخصمين في اللحظ، فلا ينظر إلى أحدهما أكثر من الآخر، ولا ينظر إلى أحدهما بشدة دون الآخر، ولا يطيل النظر على وجه الريبة؛ لأن هذا يحدث في النفوس شيئاً، فإذا نظر إلى أحدهما فلينقل النظر إلى الآخر، وإذا أجلسهما فيجلسهما في مكان واحد، فلو جلس أحدهما على شيء دون الآخر سوى بينهما في المجلس، ولا يجلس أحدهما بجواره والآخر أمامه، بل يجلسان أمامه، كل هذا من باب الحيادية في القضاء، وقد بلغ القضاء الإسلامي الأوج والعظمة وحاز أعلى المراتب وأسماها؛ لأنه من حكيم حميد، وكل هذا من أجل أن يكون العدل، حتى في الصورة والشكل.
وقوله:[ولفظه].
ولفظه: يعني في كلامه، فلا يتكلم مع أحدهما أكثر من الآخر، إلا إذا وجدت حاجة أو وجد أمر، ولا يلحظ أحدهما لحظاً شديداً إلا إذا وجدت حاجة، كل هذا من باب أن يكون على حيادية، فلا يخون في مجلسه ولا في نظره ولا في قوله.
[ومجلسه] كذلك مكان جلوسه، فلا يجعل أحدهما في مكان أبرد من مكان الآخر، ولا مكان أشرف من مكان الآخر، ولا يكون أحدهما في مكان فيه تكرمة والآخر في مكان لا تكرمة فيه، بل ينبغي أن يجلس الخصمان مجلساً متساوياً، ويكون دخولهما من باب واحد، وأن يكون حال القاضي بينهما حالاً واحداً، فلا يقوم لأحدهما ولا يقوم للآخر، ولا يحتفي بأحدهما دون الآخر، بل مثلما يفعل مع هذا يفعل مع هذا.
وقد أثر عن بعض أهل العلم أنه كان في القضاء، فدخل عليه رجل واختصم مع آخر -وهذه مأثورة عن الإمام الشيخ: عبد الله بن حميد نسأل الله أن يقدس روحه وعلماء المسلمين أجمعين- في جنات النعيم، فلما جاء دخلا عليه قالا: يا شيخ! أتينا في خصومة، قال: أتيتما في خصومة؟ قالا: نعم -وكان أحدهما دخل من باب خاص- فقال: يا فلان! من أين دخلت؟ قال: دخلت من باب كذا، قال: اذهب وادخل مع خصمك، ثم إذا دخلتما من باب واحدٍ قضيت بينكما.
وهكذا العدل، فلابد أن يكون بهذا التجرد وبهذا الصفاء والنقاء؛ لتحصل الطمأنينة لدى الناس للوصول إلى الحق.