[حكم نية الطلاق دون التلفظ به]
القول الأول: أن نية الطلاق ليست بطلاق، وأن الرجل لو عقد في نيته وعزم عزيمةً صادقة على الطلاق ولم يتلفظ؛ فلا طلاق، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمةُ الله عليه.
القول الثاني يقول: من عزم الطلاق وقويت عزيمته واطمأن قلبه على أن يطلق امرأته، فهي طالق بتلك العزيمة، وهذا القول قال به أئمة من السلف كالإمام محمد بن سيرين رحمه الله، ولما سُئِل عن فتواه في ذلك قال: قد علم الله أنه يريد طلاق زوجته، فجعل الإرادة والقصد كاللفظ، وقال: أليس الله قد علم واطلع، وما دام أنه عزم فيستوي أن يظهره أو أن يكنه، فالله عز وجل علم منه أنه يطلق فهو مطلق، وكونه يتلفظ أو لا يتلفظ هذا لا يؤثر، وهذا رواية عن الإمام مالك رحمه الله، وبعض العلماء يقول: مذهب مالك في المشهور عدم التطليق بالنية، وهذا أقوى الأقوال، وبعضهم يقول: مشهور مذهب مالك اعتبار النية، وإن كان الأقوى الأول، إذا ثبت هذا ف
السؤال
ما هو الدليل على عدم وقوع الطلاق بالنية أو على وقوعه؟ الجمهور الذين يقولون: من نوى لا نطلق زوجته، استدلوا بدليلين: أولهما: أن الله سبحانه وتعالى نص على التطليق فقال سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:٢٣٠]، ونحن لا نطلع على النيات، وحكم الشرع في الأصل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِلَ سرائرهم إلى الله)، فأصبح الأمر في مرده من حيث الأصل إلى الظاهر لا إلى الباطن في حكم الله عز وجل، وعليه قالوا: إن الله تعالى قال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:٢٣١]، وهذا لا يكون إلا بأمرٍ بيّن وهو لفظ المكلف، فمن حيث الأصل الطلاق يحتاج إلى إظهار، والنية ليس فيها ما يظهر بل ما تستكن، وهذا الدليل من أضعف الأدلة التي استدلوا بها.
ثانيهما: أقوى دليل لهم حديث أبي هريرة الثابت الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولذلك أئمة الحديث رحمةُ الله عليهم ذكروا هذا الحديث في باب الاستشهاد على أن من طلق بنيته لا يقع طلاقه، فقوله: (إن الله تجاوز لأمتي)، فالمجاوزة تدل على عدم المؤاخذة، وقوله: (ما لم تتكلم أو تعمل)، دل على أنه لا يؤاخذ على النية ما دام أنه لم يتلفظ، وهذا الحديث هو حجة الباب وفيصل المسألة، والعمل على هذا الحديث.
دليل القول الثاني: حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات)، قالوا: دل الحديث على أن العبرة بالنية، وهذا قد نوى وعزم فتطلق عليه امرأته، وقاسوا هذا على أمور الاعتقاد، وقالوا: إنه لو كان معتقداً للكفر لكفر، فيحكم بالطلاق بالنية كما يحكم بالردة بتغير القلب، أي وجود عمل القلب، قالوا: لجامع كون كل منهما مؤاخذاً به، فالطلاق مؤاخذ به، والردة مؤاخذ بها.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوة حجة السنة على مذهبهم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، وأما استدلالهم بحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فالرد عليه من عدة وجوه، وأنسب هذه الوجوه وأقواها: أن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) عام، وحديث: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها) خاص.
ثم أيضاً هناك وجهٌ ثانٍ: أن تقول: (إنما الأعمال بالنيات)، من حيث الأصل يعني: هو في السلب والإيجاب، الإحسان والإساءة، فمن نوى الخير اعتبرت نيته للخير، ومن نوى الشر اعتبرت نيته للشر، وأما في الطلاق وفي المؤاخذة فيأتي حديث: (إن الله تجاوز لأمتي)، فاستثنيت المؤاخذات وحدها؛ لأنه لا يؤاخذ إلا إذا وجد اللفظ، فدل على أنه لا يدخل في عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه لوجود ما يخصصه.
وبعبارة مختصرة تقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها)، دال دلالة واضحة على أن من حدّث نفسه بشيء لا يؤاخذ به كما لو حدّث نفسه أن يقتل أو يسرق أو يفعل أمراً حراماً؛ فإن الله لا يؤاخذه ما لم يتكلم أو يعمل، وعلى هذا فالصحيح: أن من عقد نيته في قلبه على أن يطلق زوجته أنها لا تطلق ما لم يتلفظ.