[تعريف الرضاع وحكمه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الرضاع].
شرع -رحمه الله- في كتاب الرضاع، وهذا الكتاب هو أحد الكتب المتعلقة بكتاب النكاح؛ لأن كثيراً من المسائل والأحكام التي تتعلق بالرضاع مرتبطة بأحكام النكاح؛ ولذلك يعتني العلماء -رحمهم الله- بذكر هذا الكتاب في هذا الموضع.
والرضاع في لغة العرب: هو مص الثدي سواءً خرج منه القليل أو الكثير من اللبن.
والمراد به في الشريعة: مص مخصوص من شخص مخصوص، من موضع مخصوص، على صفة مخصوصة.
وهذا التعريف المراد به: أن الرضاع لا يمكن أن يحكم بكونه رضاعاً شرعياً إلا إذا كان من شخص مخصوص، وهو مَن دون الحولين.
سواءً كان من الذكور أو كان من الإناث، إذاً: لابد أن يكون الرضاع في الحولين، واختلف فيما زاد عن الحولين إلى الستة أشهر إذا لم يفطم الصبي، فمن أهل العلم -رحمهم الله- من قال: الستة الأشهر -أي: بعد- الحولين ليس الرضاع فيها بمؤثر.
ومنهم من تسامح في الشهر والشهرين، أي: ما قارب تمام الحولين، ولكن الذي دل عليه القرآن أن الأصل في الرضاعة أن تكون في الحولين؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:٢٣٣]، وقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:١٥].
فقد يكون للحمل ستة أشهر، وأربعة وعشرون شهراً للرضاع.
لكن لا يمنع هذا أن يقع الرضاع من الكبير، وذلك في مسألةٍ مخصوصة، وهي أن يكون الشخص قد تربى ونشأ في بيت من البيوت ولا يكون بينه وبينهم قرابة أرحام، مثل: بيت الجيران، أو بيت عمه، أو بيت خاله، فزوجة العم وزوجة الخال ليست بمحرم.
فينشأ بينهم كواحد من أولادهم، ثم يكبر، فإذا كبر فإنهم في الغالب لا يتحرجون منه، بل يعتبرونه كواحد من أولادهم.
وحينئذ يُشْرَع لمثل هذا -دفعاً للحرج- أن ترضعه زوجة العم، أو زوجة الخال، لحديث سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت له زوجة أبي حذيفة -وهي سهلة بنت الحارث رضي الله عنها- أن سالماً كان عندها كواحد من أولادها، وأنه لما كبر وجدت في نفس زوجها شيئاً.
وكأنه يتحرج ويتضايق من دخوله.
فقال عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).
فأثبت عليه الصلاة والسلام الرضاعة للكبير في مسألة مخصوصة.
إذاً: فنعقب على التعريف ونقول: إن الأصل في الرضاع أن يكون في الحولين فما دون، وأما بالنسبة لما زاد عن الحولين فيفتى فيه في المسائل الخاصة كما تقدم، وكذا فيما زاد عن الحولين قريباً كالشهر والشهرين إلى نصف السنة -كما ذكرنا أنه قول لبعض العلماء- فإذا حصل فطام في الحولين فلا إشكال، بمعنى: أنه صار يغتذي بغير اللبن، لكن الإشكال إذا بلغ الحولين وأتمهما، ولكنه لا يزال رضيعاً لم يفطم، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف بين الحنفية والمالكية -رحمة الله عليهم- وغيرهم.
وقولنا: (على صفة مخصوصة) من أهل العلم من يخص الرضاع بمص الثدي كالظاهرية، ولا يرون رضاعاً بغير مص الثدي، حتى أنهم يقولون: لو أن اللبن وضع في إناء أو وضع في زجاجة -كالرضاعة الموجودة في زماننا- وشرب منه الصبي فلا يوجب ثبوت الأحكام المتعلقة بالرضاع، وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أن الرضاعة من المجاعة.
وإذا شرب من الإناء فإنه يسد به الجوع، وأثبت أن الرضاع يفتق الأمعاء، وأنه ينشز العظم وينبت اللحم، والرضاع إذا كان من الإناء ينشز العظم وينبت اللحم، كالرضاع المباشر.
وبناء على ذلك: لا فرق بين أن يكون الرضاع بالمص، وبين أن يكون بالشرب من الإناء، ثم العبرة في الرضاع بالوصول إلى الجوف، فلو أنه قطر في أنف الصبي وهو كـ (السعوط)، أو أوجر أي: صب في حلقه وهو (الوجور)، فإنه يثبت الرضاع.
ويستوي في هذا أن يكون مصاً، أو يكون من الأنف كالسعود، أو يكون وجوراً، أو لدوداً.
ثم كذلك أيضاً يتبع هذا ما لو صار لبن المرأة جبناً، أو خلط لبن المرأة بغيره وشربه الصبي، فإنه يؤثر وتحدث المحرمية؛ لأنه يسد الجوع وينبت اللحم وينشز العظم، هذا بالنسبة لقولنا: على صفة مخصوصة.
والعبرة في هذا الرضاع أن يكون بالعدد المؤثر، وهو خمس رضعات، كما سيأتي إن شاء الله.
لقوله عليه الصلاة والسلام: (خمس رضعات معلومات يحرمن) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).
وقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى).
والرضاع الأصل في ثبوته وثبوت أحكامه دليل الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:٢٣]، وهذا في سياق ذكر المحرمات، فأثبت التحريم للأصول والفروع والحواشي فدل على أن الرضاع مؤثر، وكذلك دل على مشروعية وجواز الرضاع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:٢٣٣]، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:٦]، إلى غير ذلك من الآيات، وكذلك دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: -كما في الصحيحين من حديث ابن عباس - أنه قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وكذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الرضعات الخمس المتقدم.
وحديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه -في قصته مع زوجته- وفيه: (أن امرأة جاءته وقالت: إنها أرضعته هو وزوجته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراق زوجته فقال: يا رسول الله! كيف؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف، وقد قيل؟!) فأثبت أن للرضاع تأثيراً، وأثبت أنه يحرم، وجاء ذلك صريحاً في الحديث الذي ذكرناه -وهو متفق عليه-: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
فهذا يدل على أن الرضاع مؤثر، وأنه تترتب عليه الأحكام الشرعية من ثبوت أمرين، أولهما: ثبوت الحرمة، والمراد (بالحرمة) حرمة نكاح المرأة.
والثاني: ثبوت المحرمية، وهذا إذا كان على الصفة المعتبرة، فتصبح من ارتضع منها له أماً، وفروعها إخواناً وأخواتٍ للمرتضع، وهكذا بقية الأحكام المتعلقة بالرضاعة.
يقول رحمه الله: (كتاب الرضاع).
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالرضاع.