[الركن الثالث: قراءة سورة الفاتحة]
قال رحمه الله تعالى: [والفاتحة].
هذا هو الركن الثالث، أي: قراءة سورة الفاتحة.
وهذا الركن دليل لزومه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج) أي: ناقصة.
وهذان الحديثان صحيحان ثابتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صلَّى ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته لا تصح.
وفي قراءة الفاتحة مسائل: المسألة الأولى: أن قراءة الفاتحة لازمة، وأنها ركن من أركان الصلاة لظاهر السنة.
وهذا الركن يجب في الصلاة في كل ركعة، ولا يختص بجزء منها؛ لأن العلماء اختلفوا، فمنهم من يقول: من قرأ الفاتحة في ركعة صحت صلاته، ولو تركها في بقية الركعات.
وقال الإمام مالك رحمه الله -في إحدى الروايات عنه-: لو ترك الفاتحة في ركعة من رباعية صحت صلاته.
والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، وذلك لدليلين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، الثاني: قوله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل ... ) الحديث، فذكر القراءة وهي واقعة في الركعة، فصح أن يصدق على الركعة أنها صلاة، وأن جزء الصلاة الذي هو الركعة يُعتبر صلاةً، لأن الذين قالوا: يجوز أن تقرأ الفاتحة في ركعة وتجزيك، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما صلاة لا يقرأ فيها)، وأنت قد قرأت.
فيقولون: يصح أن تقرأها في ركعة، ويصح أن تقرأها في ركعتين، وتقتصر على هذا.
والصحيح أنه لا بد من قراءتها في كل ركعة، ويقوي هذا حديث المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بالقيام والقراءة في الركعة الأولى ووصفها قال له بعد القراءة: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع) ثم ذكر السجود، ثم قال له بعد السجدة الثانية: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)، فدل على أن هذا الموصوف الذي ذكره وألزم فيه بالقراءة في الأولى أنه يسري حكمه إلى غيره كما هو ثابت فيه، وبناءً على ذلك يُلزَم المكلَّف بقراءة الفاتحة في كل ركعة.
وكان بعض العلماء يقول: إن الأخريين من صلاة الظهر لا يُقرأ فيهما، والصحيح أنه يُقرأ، وكانوا يقولون: إنه يرخص للمكلف أن يترك الفاتحة فيهما، واحتجوا بما أُثر عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما أنهما رخصا في ترك الفاتحة، كما روى ذلك مالك عن عمر في الموطأ.
والصحيح أن الحجة في السنة، ويعتذر لـ عمر -إن ثبت عنه، وإن كان الأثر عنه غريباً- بأنه لم يبلغه الحديث، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة، وهو الذي يجب على المكلف التزامه في كل ركعة.
المسألة الثانية: قراءة الفاتحة للمنفرد والإمام والمأموم: أما المنفرد والإمام فنلزمهما قراءة الفاتحة وجهاً واحداً.
وأما المأموم فللعلماء فيه أقوال: فبعض أهل العلم رحمة الله عليهم يرون أن المأموم يَحْمِل الإمام عنه قراءة الفاتحة، فمذهب الحنفية وإحدى الروايات عن الإمام مالك أنه إذا قرأ الإمام -خاصة في الجهرية- سقط عن المأموم قراءة الفاتحة، ولزمه الإنصات والاستماع.
والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ووافقهم الظاهرية وبعض أهل الحديث أنه يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة وراء إمامه، وذلك لأمور: أولها: أن الحديث الذي دل على وجوب الفاتحة ولزومها عام شامل لحال المنفرد والمأموم، ولا مخصص له.
ثانيها: أنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالناس الفجر فارتج عليه، فقال: (إنكم تقرءون خلف إمامكم! قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، فإن هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن المأموم ملزم بالقراءة وراء الإمام، فإن قوله: (إلا بفاتحة الكتاب) استثناء، والقاعدة في الأصول أن الاستثناء إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، وقال: (فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، أي: بفاتحة الكتاب افعلوا.
فألزم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها وراء الإمام، فدل على أن المأموم وراء الإمام يلزمه أن يقرأ الفاتحة.
وأما من قال بعدم لزومها فاحتج بحديث جابر: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث ضعفه جماهير أهل الحديث، والضعف فيه من القوة بمكان، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، لكن هناك من أهل العلم من حسن الحديث، وحَسّن إسناده لشواهد.
فعلى القول بتحسين هذا الحديث قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) يدل على سقوط الفاتحة.
وهذا الحديث يُجاب عنه من وجهين: الوجه الأول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) المراد به قراءة الإمام التي يختارها بعد الفاتحة، ولذلك نسبها إليه، أي: لو أن الإمام قال: (ولا الضالين) وقلت: آمين، ثم قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١]، فلا تقرأها، فقراءة الإمام بـ (سبِّح) لك قراءة، فكأنك قد قرأتها.
فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (فقراءة الإمام له قراءة) أي: فيما كان من غير الفاتحة، وهذا هو الذي ورد فيه الحديث.
الوجه الثاني: أن من قال: إن هذا الحديث متأخر عن حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب).
يجاب عنه بأنه ليس هناك دليل صحيح يدل على تأخر هذا عن تاريخ الذي قبله، وقد تقرر في الأصول أن ادعاء النسخ ليس بحجة؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فلو قال أحد: إن هذا الحديث متأخر عن الذي قبله لا يُقبل قوله حتى يأتي بالدليل على تأخره، وأنه قد وقع بعده لكي يكون ناسخاً.
ولذلك فالأحاديث التي تدل على وجوب قراءة الفاتحة على العموم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) كلها نصوص صحيحة تدل على أنك إذا كنت وراء الإمام فإن قراءة الفاتحة تلزمك.
وهذه الركنية شاملة للمنفرد وللإمام وللمأموم، ويستوي في هذا أن تكون الصلاة جهرية أو سرية، فأما الجهرية فقراءة الفاتحة بالنسبة لك ركن، واستماعك لقراءة الإمام لما بعد الفاتحة أعلى درجاته أنه واجب على القول بظاهر الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:٢٠٤]، فنقول: إنه قد تعارض الركن والواجب فيقدم الركن على الواجب.
ولو أن قائلاً قال: إن إثبات الركنية إنما هو بالاجتهاد.
فلو سُلِّم هذا جدلاً فإننا نقول: هب أنهما واجبان، واجب متصل وواجب منفصل، والقاعدة أنه إذا تعارض الواجب المتصل بعبادة المكلف مع الواجب المنفصل فإن الواجب المتصل الذي أُمِر به إلزاماً يقدم على ما انفصل عنه على سبيل المتابعة للإمام.
وقوله: [الفاتحة] يخالفه فيه بعض العلماء فيقول: قراءة الفاتحة.
وهذا أدق، فالتعبير بالقراءة إسقاط لما في السِّر، فلا يجزئ الإنسان أن يقفل فمه؛ لأن بعض الناس يكبر تكبيرة الإحرام ويقفل فمه فتجده كالصامت وهو يقرأ في داخل نفسه، فهذه القراءة لا تجزيه، ولا تصح منه حتى ينطق، وقالوا: يُسمِع نفسه.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ) والقراءة إنما تكون باللفظ، وأما ما كان في النفس فليس بقراءة ولا في حكم القراءة.
المسألة الثالثة: إذا ثبت أن المأموم مأمور بقراءة الفاتحة فإنه يستثنى من هذا إذا أدرك الإمام راكعاً، فإنه تسقط عنه الفاتحة لظاهر حديث أبي بكرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أدرك الركوع فقد أدرك السجود، ومن أدركهما فقد أدرك الركعة)، وهذا نص، وبناءً على هذين الحديثين نقول: إن هذا استثناء لهذه الحالة بعينها، فمن أدرك الإمام راكعاً سقطت عنه الفاتحة؛ لأنه لم يُدرِك وقتاً يمكنه فيه القيام بركنها.
أما إذا أدركه قبل الركوع فحينئذ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يدرك وقتاً يتسنى له أن يقرأ فيه الفاتحة فيقصِّر أو يشتغل بدعاء الاستفتاح، فحينئذٍ يلزمه قضاء الركعة إن لم يقرأ الفاتحة، لأنه كان بإمكانه أن يقرأ.
الضرب الثاني: أما لو أدرك وقتاً لا يمكن معه قراءة الفاتحة، فبمجرد أن كبَّر وقبض يديه وشرع في الفاتحة كبَّر الإمام للركوع، فتسقط عنه الفاتحة؛ لأنه لم يدرك وقتاً يُلزَم في مثله بالقراءة.
المسألة الرابعة: الأصل وجوب قراءة الفاتحة باللفظ، ويستثنى المريض الذي تكون في لسانه عاهة، ولا يمكنه التحريك، فإنه يجزيه أن يقرأ في نفسه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن يقرأ إلا على هذا الوجه، فسقط عنه اللفظ وتحريك اللسان وبقي على الأصل.
وفي حكم هذا من كان في لسانه جراح بحيث يصعب عليه، أو يتألم عند تحريك اللسان، فإنه يجزيه لو أطبق الشفتين وقرأ في نفسه، وتصح منه القراءة ويعتد بها.