قال رحمه الله:[ويحرم على المحدث مس المصحف] ويحرم على المحدث مس المصحف وهو القرآن، ودليل ذلك ظاهر القرآن -على نزاع- في قوله تعالى:{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:٧٩] وإن كان الصحيح: أن المراد به اللوح المحفوظ، وأنه لا يمسه إلا الملائكة، لكي ينفي الله جل وعلا تسلط الشياطين على الوحي كما قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:٢١٠ - ٢١١] فالصحيح: أن الآية محمولة على اللوح المحفوظ، لكن فيها وجه عند أهل العلم بحملها على المصحف.
أما الدليل الثاني: فحديث عمرو بن حزم وقد تلقته الأمة بالقبول، وفيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم:(أن لا يمس القرآن إلا طاهر) وقوله: (إلا طاهر) أي: إلا متوضئ، وقال بعض العلماء:(إلا طاهر) يعني: مسلم وليس بمشرك، وهذا قول ضعيف، وحجتهم أنهم قالوا: إن المسلم متطهر، فلا يقال: إن قوله: (طاهر) المراد به: المسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة:(إن المسلم لا ينجس)، وأصحاب هذا القول التبس عليهم الأمر؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن المسلم لا ينجس) لا يقتضي التطهير؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:(إني كنت على غير طهارة) وقال لـ أم سلمة -كما في الصحيح في غسل الجنابة-: (ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت) وقال الله في التنزيل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}[البقرة:٢٢٢] معنى ذلك: أن الطهارة ما كانت موجودة، ولذلك فرق بين قوله: إنه طاهر، وبين قوله: إنه لا ينجس، فالنفي الذي ورد في حديث أبي هريرة (فانتجست)(فانبجست)(فانخنست) كلها روايات ظن فيها أبو هريرة أنه نجس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) أي أنه إذا أجنب لا يحكم بكونه نجساً، هذا أمر منفصل عن حديث عمرو بن حزم فليتنبه طلاب العلم إلى ذلك، فإن بعضاً من شراح الحديث عتبوا على جمهور العلماء، وقالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (أن لا يمس القرآن إلا طاهر) المراد به أن لا يمسه كافر، وأن الطاهر هو المسلم، وهذا ليس بصحيح؛ وأما الحديث الوارد من أنه:(لا ينجس) ففرق بين نفي النجاسة وبين إثبات وصف الطهارة، فإن النصوص في الكتاب والسُّنة تدل على جواز نفي الطهارة عن المؤمن، كقوله عليه الصلاة والسلام:(إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله).
الدليل الثالث -وهو من القوة بمكان-: هدي السلف الصالح فقد روى مالك في الموطأ: أن ابناً لـ سعد بن أبي وقاص كان يقرأ عليه القرآن والمصحف بين يديه، فيقول ابنه:(فتحسّست أو تحككت، فقال لي أبي: لعلك لمست -أي: لمست العضو- قال: نعم.
قال: قم فتوضأ)، فدل على أنه كان معروفاً ومعهوداً عند الصحابة أن مس المصحف لا يكون إلا لمتوضئ، ولذلك يعتبر التطهر من أجل مس المصحف من الأمور التي يختص بها كتاب الله تشريفاً له وتكريماً.