[التحذير من الاعتداء على العقل]
جريمة الاعتداء على العقل: أعز ما مع الإنسان بعد نفسه ودينه؛ عقله، الذي هو نور يميز به بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ الاعتداء عليه إما بشرب المسكرات والمخدرات، وإما بغيرها.
فكلما هم بها العبد إذا بالقرآن يأتي بأبلغ العبارة وأصدق الإشارة ويهز القلوب هزاً؛ فتحصل الاستجابة ويعمل على التخلص من الخمور، ويسعى للإقلاع عن المسكرات وتجنب سبيلها.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:٩٠]، فكون الآية تصدر بخطاب فيه وصف التشريف والتكريم فما ذلك إلا لأنه أدعى للاستجابة؛ لأنه لا يستجيب لربك الاستجابة التامة الكاملة إلا أهل الإيمان، ولذلك خصهم الله بندائه، وشرفهم بدعوته.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمِنُوا)): لأن المؤمن ينظر إلى الآخرة، ينظر إلى الحساب إلى العذاب إلى الجنة إلى النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة:٩٠]: أسلوب الحصر والقصر، كأنه يقول: هذه الخمر، ما فيها إلا كذا، بخلاف أن يقول: الخمر كذا وكذا، وابتدأ بها قبل الميسر والأوثان، فقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة:٩٠]، فجعلها قبل الشرك لأنها طريق إليه؛ ولأنها أم الخبائث، ومن فقد عقله فإنه قد يشرك بالله عز وجل ويرتد ويسب الدين، وينتهك الحرمات ويسفك الدماء المحرمة، ولربما قتل أمه وأباه، والعياذ بالله.
فإذاً: هي أم الخبائث، فقدمها قائلاً: ((إِنَّمَا الْخَمْرُ))، قبل الشرك بالله عز وجل والميسر، والأنصاب والأزلام: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة:٩٠]، فجاءت نكرة، والعرب إذا جاءت بالنكرة فإنها تشير بذلك إلى استغراق الشيء في الوصف، أي: إنها الرجس كله، فعندما تقول: فلان رجل، يعني جميع صفات الرجولة فيه، فلما قال الله: الخمر رجس، فجميع صفات الأرجاس الحسية فيها، فليس هناك أخبث منها، ولا أنتن منها، والأرجاس المعنوية التي فيها الكفر بالله عز وجل وسب الدين وفيها قتل النفس المحرمة، فالأرجاس القولية والفعلية كلها في الخمر.
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} ثم يقول تعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:٩٠]، والمؤمن بينه وبين الشيطان نفرة؛ لأن الله قال له: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:٥٣]، وإذا علمت أن هذا من عدوك فهل ترضى به؟ {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:٩٠]، أمر باجتنابه، ولم يقل: لا تشربوا الخمر، وإنما قال: ((فَاجْتَنِبُوهُ))، ومعنى المجانبة ألا يشرب من باب أولى، فهذا نهي عن الاقتراب منها، بخلاف ما إذا قال: لا تشربها، فإنه قد يطلي بها، وقد يتعطر بها، لكن قال: ((فَاجْتَنِبُوهُ))، فجاء النهي عاماً بالترك، وعدم التلبس بهذه الخمرة التي حرمها الله ورسوله.
{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:٩٠]، كونه يرتب الفلاح على ترك الخمر، فوالله ما ترك الخمر عبدٌ لله مؤمناً موقناً صادقاً مستجيباً لله عز وجل إلا أفلح وأنجح.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:٩١]، وهذا من بيان الآثار السيئة للجريمة: {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، والله عز وجل يريد القلوب أن تجتمع وأن تأتلف، والأرواح أن تتصافى، وكل نصوص القرآن والسنة تجمع المؤمنين ولا تفرقهم، وتحبب بعضهم إلى بعض ولا تبغضهم ولا تُبغِّض المؤمن للمؤمن.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:٩١]، فما شربت الخمر إلا سَب شاربها ولعن وقذف، ووقع في حدود الله عز وجل وانتهكها، فقال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:٩١]، لما قال: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، جاء الله عز وجل بوصفين خبيثين في الخمر: الأول: يضر بالناس، وفيه إضاعة لحقوق الناس، والثاني: يضر بحق الله وفيه إضاعة لحق الله، {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}، فجمع الله فيها بين الشرين، فيما بين العبد وربه وفيما بينه وبين الناس.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}؟! عبارة جميلة وأسلوب بلاغي رفيع، ما ملك الصحابة حينما سمعوا هذه الآية إلا أن صاحوا وصاح عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا، ورد في رواية أنه جثا على ركبتيه وقال: انتهينا يا رب! انتهينا يا رب! فهذه الخمر التي كانت مفتونة بها النفوس استلت بالآيات البينات من كتاب الله عز وجل؛ فما بال الذي يقترف معصية من المعاصي ويقال: يا أخي! اتق الله واترك، فيقول: لا أقدر! كان بعض الصحابة يشرب الخمر، والخمر من أشد ما يكون فطم الإنسان عنها، ولكن قال الله: اتركها فتركها، وقال الله: اجتنبها فاجتنبها، كمال الاستجابة من كمال التوحيد وكمال الإيمان.