للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الخلاف في غسل أو وضوء المستحاضة عند كل صلاة]

قال المصنف رحمه الله: (وتتوضأ لكل وقت صلاة، وتصلي فروضاً ونوافل).

قوله: (وتتوضأ لكل صلاة) ذكرنا حكم الموضع، وكل الأحكام التي كنا نبحثها سابقاً في موضع المستحاضة، بقي السؤال عن طهارتها؟ فالمستحاضة نظراً إلى أن خارجها -وهو الدم- يوجب انتقاض الطهارة، فإنه يرد

السؤال

متى تتطهر؟ وكيف تكون طهارتها من الحدث؟ فتقول: طهارتها من الحدث تستلزم عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وهي مسألة خلافية فيها ما يقرب من أربعة أقوال للسلف رحمة الله عليهم.

فقال بعض العلماء: المستحاضة يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل إذا انقطع الحيض وانتهى، ثم بعد ذلك تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة.

هذا القول الأول، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية -في المشهور- والشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.

القول الثاني: يستحب لها الوضوء عند كل صلاة ولا يجب عليها، وبهذا القول قال المالكية، وقال به أيضاً الظاهرية، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن إمام المدينة، والذي يسمى: ربيعة الرأي رحمة الله على الجميع، فقالوا: لا يجب عليها أن تتوضأ، ولكن يستحب لها الوضوء عند دخول وقت كل صلاة.

القول الثالث: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وهذا أشد الأقوال، وهو مأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ ابن عباس رضي الله عنهما، وإحدى الروايات عن علي رضي الله عنه وأرضاه، وأفتى به سعيد بن المسيب إمام المدينة.

القول الرابع: أنه يجب عليها أن تغتسل في اليوم مرة واحدة دون تعيين، وهو قول علي رضي الله عنه وأرضاه، سواء كان في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره، قالوا: ولا يجب عليها إلا غسل واحد في اليوم وحده، وهذه هي أشهر الأقوال في المستحاضة.

وأصح هذه الأقوال وأقواها: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة؛ وذلك لأمره عليه الصلاة والسلام لـ أم حبيبة رضي الله عنها بذلك.

وللفائدة: كان هناك ثلاث من بنات جحش رضي الله عنهن وأرضاهن مستحاضات: الأولى منهن: زينب أم المؤمنين - زينب بنت جحش - رضي الله عنها وأرضاها، ولكن زينب كانت استحاضتها قليلة، كما أفاده الحافظ ابن الملقن رحمة الله عليه، قال: إنها كانت تستحاض، ولكن كانت حيضتها قليلة.

والثانية من بنات جحش: حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنها وعنه.

والثالثة من بنات جحش: أم حبيبة، وكانت أشدهن، وهي زوجة لـ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه؛ أحد المبشرين بالجنة.

فهؤلاء النسوة كن يستحضن، وكانت أشدهن -كما قلنا- حمنة وأم حبيبة رضي الله عنهما، حتى أثر عن إحداهن أنها مكثت خمس سنوات وهي تستحاض، وأثر عن إحداهن أنها كانت تصلي والطست تحتها يجري بالدم.

ومن النساء أيضاً فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها ثابت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

الذين قالوا: يجب عليها أن تتوضأ؛ استدلوا بما ثبت في الرواية -واختلف في ثبوتها، ولكن الصحيح أنها حسنة ومعتضدة بشواهد متعددة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: (وتوضئي لكل صلاة) فقالوا: توضئي (أمر)، والأصل في الأمر أنه للوجوب، وبناءً على ذلك: يجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، هذا القول الأول.

أما دليل العقل: فلأنها إذا خرج منها الخارج انتقض وضوءها، وإذا انتقض وضوءها بخروج الخارج؛ فإن الأصل أنها مطالبة بالوضوء، فإذا خفف الشرع عنها مدة الوقت بقي ما عداه على الأصل من كونه فرضاً، هذا بالنسبة لدليل العقل، فاجتمعت دلالة النقل ودلالة العقل على وجوب وضوئها لكل صلاة، وبناءً على هذا: إذا أذن أذان الظهر توضأت، لكن لو توضأت قبل أذان الظهر، كما لو توضأت في الساعة الثانية عشرة والظهر يؤذن في الثانية عشرة والنصف أو وربع فحينئذٍ تستبيح الصلاة إلى أذان الظهر، فإن دخل وقت الظهر فإنها حينئذٍ تستقبله بوضوء جديد، هذا بالنسبة لوضوئها لكل صلاة.

أما الذين قالوا بغسلها لكل صلاة، فالروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالغسل، ولا يوجد إلا دليل واحد لهم وهو حديث فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل، قال -كما في الصحيح-: (وكانت تغتسل لكل صلاة) قال بعض العلماء الذين يقولون بوجوب الغسل لكل صلاة: وهذا يدل على وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة، وهو مذهب من ذكرنا من الصحابة.

والصحيح أنه لا يجب، وأن اغتسال فاطمة رضي الله عنها كان اجتهاداً منها، وليس بنص النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمره لها أن تغتسل إنما هو عند انقطاع دم الحيض، ولم يكن أمراً بالاغتسال عند كل صلاة، فبقيت الذمة على الأصل من كونها بريئة من المطالبة بالطهارة الكبرى، والأصل أنها مطالبة بالطهارة الصغرى.

أما الذين قالوا: إنه يجب عليها غسل واحد في اليوم، فهناك أحاديث ضعيفة وآثار استدلوا بها.

وأصح الأقوال في هذه المسألة: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة على ظاهر ما ذكرناه من حديث أبي داود والترمذي وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه غير واحد، وسئل الإمام البخاري رحمه الله عن هذا الحديث فحسن إسناده، والقول بتحسينه من القوة بمكان، وإن كان بعض العلماء يرى أنه صحيح لغيره.

فهذا حاصل ما يقال في حكم المستحاضة من جهة طهرها: هل تتوضأ لكل صلاة أو تغتسل؟ وهناك مسألة ثانية: إذا ثبت أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة وأنه لا يجب عليها الغسل، فهل يستحب لها الغسل؟ أعدل الأقوال: أنه يستحب لها الغسل لكل صلاة، ولكن لا يجب؛ لورود ذلك من فعل السلف، وهو فهم الصحابية، ولذلك نقول يستحب لها أن تغتسل ولا يجب.

قال المصنف رحمه الله: [وتصلي فروضاً ونوافل].

تصلي الفروض في الوقت، فتصلي فرض العصر، وفرض الظهر، والمغرب والعشاء والفجر كلاً بحسب وقته.

فإذا توضأت لصلاة الفجر صلت بهذا الوضوء الفروض والنوافل، فابتدأت بركعتي الرغيبة فصلتها، ثم ثنت بصلاة الفجر، ثم إذا طلعت الشمس وأرادت أن تصلي الضحى صلت الضحى، ولا يلزمها أن تجدد وضوءها؛ لأنها على أصلها من كونها طاهرة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>