قال رحمه الله:[وهي السمع] قوله: (وهي) أي: هذا تفصيل لقوله (في كل حاسة) فقال رحمه الله: (السمع)، والسمع حاسة من أعظم الحواس، ولذلك قدمه الله قيل تشريفاً له، حتى إن مذهب بعض العلماء أن السمع أفضل من البصر كما قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ}[الإسراء:٣٦] فقدم السمع على البصر، وقالوا: إنه أعظم، ويقال: إن الفهم بالسمع أقوى من الفهم بالبصر، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في الطفل؛ لأن الطفل يميز الأشياء بعد السماع، والسماع يعين الطفل على التمييز، ومن هنا كان أمر السمع أعظم، وشأنه أكبر، فلو جنى عليه جناية أذهبت سمعه والعياذ بالله كلياً، فإنه يجب عليه ضمان السمع كاملاً بديته كاملة.
لكن الذي استشكله العلماء في هذه المسألة، أنه قد يدعي -والعياذ بالله- شخص أن سمعه ذهب، فكيف يمكن أن يعرف في السمع والبصر أنه فعلاً قد أثرت الجناية فيه حتى أذهبت سمعه؟ وهذا أمر أيضاً ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، فقالوا: إنه إذا كان يدعي أن سمعه ذهب، وقال الجاني: لم يذهب سمعه، واختلفا، اختبر وامتحن.
قالوا: ومن الامتحان: أن يترك في حال غفلة ثم يصاح عليه صيحة مزعجة، فإن تأثر بها فجأة، فمعنى ذلك أنه كذب، ولذلك هذه مما ذكرها العلماء رحمهم الله والأئمة، لأنه لو فتح هذا الباب، فهناك من الناس -نسأل الله السلامة والعافية- من لا يتورع عن الكذب، حتى ولو لم يؤثر الإضرار في حقيقته إلى ذلك، لكن قد يكون هناك رغبة في الإضرار بالجاني بسبب العداوة، أو لحب الانتقام، أو بسبب محبة الدنيا، -نسأل الله السلامة والعافية- مهما كانت الدوافع والموجبات، لكن الذي يهمنا أنه يختبر ويمتحن، وفي البصر قالوا: إذا ادعى أنه لا يرى شيئاً، تؤخذ له حية، أو شيء مخوف، وهو مؤتمن على نفسه، وقد يكون رجلاً ليست عنده أمانة، قالوا: فيقال له: سر في مكان فيه حية، وفيه تلف، أو يكون آخر المسير فيه مثلاً كبوة أو حفرة، فإذا اتقى أو امتنع أو تلكأ أو تأخر يعني: وجدت الريبة في تصرفه، ظهر أنه ليس بصادق.
، فعلى كل حال هذا مما ذكره العلماء والأئمة من المتقدمين رحمهم الله، وكل هذا يراد به الوصول إلى حقيقة الجناية، فإذا ثبت أن السمع ذهب كله وجبت الدية كاملة، فإذا جنى عليه فأبقى شيئاً من سمعه، والسمع يشترط ذهابه من الأذنين، فإذا أذهب السمع من الأذنين فيه الدية كاملة، لكن لو أنه أتلف السمع في أذن والأذن الأخرى سليمة، أو جاء مريض إلى طبيب واشتكى أذنه فعالج تلك الأذن فأذهب سمعها، فإنه حينئذٍ يجب ضمان السمع بجزئه بحسب ما فات وهو النصف.
يجب عند الحكم بالدية كاملة أن يراعى أمر مهم جداً وهو أن يقول الأطباء: إن هذه الحاسة التي تلفت لا تعود، فلو قال الأطباء: إن هذه الضربة تذهب السمع إلى حين، وهناك أمل أن يعود السمع بعد علاج أو دواء، أو بعد مضي مدة فحينئذٍ ينبغي التريث والتربص، ثم اختلف العلماء في التفصيل فقالوا: إذا قال الأطباء إن سمعه يمكن أن يعود فلا يخلو قولهم من حالتين.
الحالة الأولى: أن يحددوا زماناً لرجوع السمع، وهذا التحديد ليس من علم الغيب، إنما هو راجع إلى التجربة، وهذا مما يقبل فيه القول؛ لأن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً، فإذا ثبت بتجربة الأطباء أنه مرت عليهم حوادث من جنس هذه الحادثة ذهب فيه السمع سنة ثم عاد، أو شهراً أو شهرين ثم عاد، فإذا حددوا كان في ذلك تفصيل: فإن حددوا مدة يغلب على الظن عيش المجني عليه إليها؛ فإنه لا يجب إعطاء الدية إلا بعد مضيها، فإذا مضت المدة ولا زال فاقداً لسمعه وجبت الدية، وأما إذا حددوا مدة يغلب على الظن موته وهلاكه قبل مضيها ففيه وجهان مشهوران للعلماء رحمهم الله: فمنهم من يرى التربص، ومنهم من يرى أنه يعطى الدية وهو أقوى.
أما إذا لم يحدد مدة، قالوا: يمكن أن يرجع إليه ويمكن ألا يرجع، فإنه قد جنى جناية توجب الدية، فالأصل وجوب الدية، وحينئذ احتمال أن يرجع أو لا يرجع ساقط ما لم يغلب ويترجح، وعلى هذا فإننا: نوجب على الجاني أن يدفع للمجني عليه الدية كاملة.