للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قول الرجل لامرأته: (أنتِ الطلاق)

قبل أن ندخل في التفصيلات -نسأل الله لنا ولكم المعونة-.

أولاً: حتى تكون الصورة واضحة، الطلاق إذا وقع فيه اللفظ، فإما أن يتفق مع النية، وإما أن يختلف مع النية فعندنا صورتان: إما أن يتفق لفظ الطلاق الذي يتلفظ به مع الذي نوى، وإما أن يختلف، فتكون نيته شيئاً ولفظه شيئاً آخر.

الصورة الأولى: أن يتفق لفظ الطلاق ونيته سواءً كان بالأقل أو كان بالأكثر أو بينهما.

مثال: أن يقول للمرأة: أنت طالق طلقةً واحدة وينوي واحدة، فاللفظ واحد والنية واحدة فاتفقت النية مع اللفظ، فإجماعاً تُعد طلقة واحدة أو يقول لها: أنت طالقٌ طلقتين، وينوي الطلقتين، فاتفق اللفظ مع النية، أو يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، وينوي الثلاث، فاتفق اللفظ مع النية.

في هذه الحالة إذا اتفق اللفظ مع النية فلا إشكال أنه ينفذ الطلاق على التفصيل، وجماهير السلف والأئمة من الصحابة والتابعين على الإمضاء؛ لأنه تلفظ بالطلاق ونيته موافقة، فاجتمع دليل الشرع على المؤاخذة؛ لقوله (إنما الأعمال بالنيات)، وهذه مؤاخذة الباطن، وكذلك قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:٢٣٠]، {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:٢٣١]، {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [البقرة:٢٣٧]، وهو تلفظ بالطلاق، هذا بالنسبة لاجتماع اللفظ مع النية.

صورة أخرى: أن يختلف اللفظ مع النية فتكون نيته شيئاً، ولفظه شيئاً آخر، ونحن لا نتكلم في من لم يَنْوِ الطلاق، إنما نتكلم عن شخص نوى الطلاق واختلفت نيته في العدد، أما مسألة أن يأتي بلفظ يحتمل الطلاق أو غيره، أو ينوي بلفظ يحتمل الطلاق أو بغيره، فقد تقدمت معنا في الكنايات وبينا حكمها في الكنايات.

لكنا هنا أمام رجلٍ يتلفظ بلفظ الطلاق، ولكن يتردد لفظه بين الأقل أو الأكثر فقال: ما يختلف به عدد الطلاق، ولسنا في مسألة: أيمضي الطلاق أو لا يمضي؟! فالأمر مفروغ منه، والطلاق ماضٍ -لا شك في ذلك- لكن هل يمضي ثلاثاً، أو يمضي اثنتين، أو يمضي واحدة؟! فهنا البحث كله منصب على: هل اللفظ يؤخذ بالأكثر أو الأقل؟ فإذا اختلفت نيته -وهي الصورة الثانية- عن لفظه، فإما أن تكون النية للأقل واللفظ للأكثر، أو يكون اللفظ للأقل والنية للأكثر.

توضيح ذلك: أن تكون نيته لعدد أقل مما تلفظ به: فيقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، وينوي واحدة، فاللفظ مختلف عن النية، النية تنوي الأقل، واللفظ واقع على الأكثر، هذه الحالة الأولى من الصورة الثانية.

الحالة الثانية من الصورة الثانية: أن يكون العكس، يقول لها: أنت طالقٌ طلقةً واحدة، وينوي الثلاث، أو أنت طالقٌ طلقة، وينوي الثلاث، فاللفظ للأقل والنية للأكثر، ففي جميع هذه الأحوال يرد

السؤال

هل نأخذ بالأكثر أو نأخذ بالأقل؟ هل نأخذ بالأكثر؛ لأن لفظ الطلاق خطير والشرع اعتد باللفظ واعتد بالطلاق حتى أمضاه على الهازل، أو نأخذ بالأقل لأن الأصل أنها زوجته والأصل عدم الطلاق حتى يدل الدليل على أنها خرجت من عصمته بالطلاق؟ ففي بعض الأحيان نُغَلِّب النية وبعض الأحيان نُغَلِّب اللفظ، وهذا من مباحث اختلاف الظاهر مع الباطن، فالشرع تارةً يقوي الظاهر على الباطن، وتارةً يقوي الباطن على الظاهر.

ففي الطلاق قوّى الظاهر على الباطن في الهازل، فإن الهازل يمزح مع زوجته ويقول لها: أنت طالق، ولا ينوي الطلاق؛ فاعتبر الشرع لفظه، ولم يلتفت إلى نيته، وهكذا إجماع العلماء في ألفاظ يعتدون فيها بالنية، ويجزئه ذلك ديانةً بينه وبين الله عز وجل كما تقدم معنا.

فالسؤال الآن: إذا قال لها: أنت الطلاق؟ (أنت الطلاق) للعلماء فيها وجهان - من حيث النظر إلى اللفظ- أحدهما: أن المرأة تطلق وتوصف بكونها طالقاً بطلقة واحدة، لكن المشكلة أنه جاء بـ (ال)، فهل نقول: الطلاق، يعني: كل الطلاق، وكأنه جعل جميع الطلاق لها، وحينئذٍ يكون قوله: (ال) في (الطلاق) المراد بها: الاستغراق، فيحمل العدد على أتم الأعداد؟ هذا وجه.

الوجه الثاني: أن قوله: (أنت الطلاق) يتردد بين الاستغراق وبين أقل ما يقع ويسقط عليه الطلاق؛ فنأخذ بالأقل ما لم ينوِ الأكثر، وهذا هو الصحيح، وعليه درج المصنف، أنه لو قال لامرأته: أنت الطلاق سألناه: هل نويت واحدةً فتكون واحدة، أو نويت ثلاثاً فتكون ثلاثاً؟، فإذا قال: لم أنوِ شيئاً، فواحدة، قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الشعراء لم يعتبروا المصدر دالاً على الاستغراق في هذا، ولذلك قال أحد الشعراء وكان قد غضب من امرأته، وعاش معها رِدحاً من الزمن حتى ملها وسئم، وقال: إنك شهرت بي أي: يشتكي عشرته معها وأنها بلغت إلى أسوأ الحالات-: ونوهت باسمي في العالمين وأفنيت عمري عاماً فعاما فأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما فما أبقى لها شيئاً، وجه الدلالة: أنه لم يقل لها: أنت الطلاق واعتدها ثلاثاً، بل كرر اللفظ ثلاث مرات، فدل على أن اللسان العربي يُفهم منه أن (أنت الطلاق) وحدها لا تدل على الثلاث؛ لأنها لو كانت وحدها تدل على الطلاق، لم يقل لها: وأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثاً تماماً فلو كان نفس اللفظ يدل على الطلاق لما كرر، فتكراره للفظ يدل على أن هذا المصدر لا يدل على الاستغراق من كل وجه وحينئذٍ تطلق طلقةً واحدة، ويحكم بكونها طالقاً طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من واحدة، فإذا قال لها: أنت الطلاق، فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول لها: (أنت الطلاق، أنت الطلاق، أنت الطلاق) فيكرر، أو يقول لها: (أنت الطلاق) ويسكت، فإن قال لها: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) وكرر ونوى واحدة فواحدة، وإن قال: (أنت الطلاق، وأنت الطلاق، وأنت الطلاق) ناوياً الثلاث فثلاث، وإن قال: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) ولم ينوِ شيئاً، فللعلماء وجهان كقوله: (أنت طالقٌ طالق طالق) وسيأتي بيانها إن شاء الله.

الخلاصة: أن قوله: أنت الطلاق، لفظ محتمل يتردد بين الاستغراق الموجب للثلاث وبين الدلالة على أقل الطلاق وهي واحدة، وهذا هو الصحيح؛ فإن كرره أو نوى به الثلاث فثلاث وإلا فواحدة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>